في زمن تختنق فيه الأرض من عبء الاستهلاك والأزمات المناخية، لم يعد بمقدور البرلمانات أن تبقى مجرد حارسة للنصوص ومراقبة للحكومات، بل أصبحت مطالبة بأن تعيد تعريف دورها، وتوسّع من مدى تأثيرها ليشمل القضايا الكونية التي تمسّ الحياة ذاتها، ومن هنا، تبدأ أهمية التحول الذي يشهده مجلس النواب البحريني اليوم، ليس فقط في نيله شهادة الإدارة البيئية (14001:2015 ISO)، بل في تبنّيه لفكرة «البرلمان الأخضر» كمفهوم وجودي، وسلوك مؤسسي، ورؤية ممتدة للمستقبل.
البرلمان الأخضر ليس تعبيراً تجميلياً يُضاف إلى قاموس الخطابات الرسمية، بل هو مشروع وطني نابع من الوعي البرلماني، يحوّل البيئة من قضية جانبية إلى أحد أعمدة الفعل التشريعي والإداري، وعندما يخطو مجلس النواب البحريني هذه الخطوة الجريئة، فإنه لا يعلن التزامه بالمعايير البيئية فحسب، بل يقدم للمجتمع نموذجاً جديداً من البرلمانات التي تعيش القيم التي تشرّعها، وتطبّق ما تنادي به داخل جدرانه، ويؤكد على أن المجلس لا يزال قادراً على العطاء النوعي حيث تتوفر له الرؤية والدعم والتكامل بين الهيئات على المستوى المحلي بينما على المستوى الدولي فهي رسالة بأن البحرين تملك برلمانا يتحدث لغة الحاضر والمستقبل وقادر على قراءة المتغيرات العالمية وترجمتها وطنياً حيث التحدي الحقيقي الآن في تحويل هذا الإنجاز من شهادة جدارية إلى ثقافة مؤسسية، ومن خطة منفردة إلى مسار ممتد تبنى عليه تشريعات قادمة للمصلحة العامة والمصلحة الوطنية العليا.
هذا التحوّل يعكس تطوراً في بنية العقل التشريعي البحريني، الذي لطالما كان مرآة للتحولات الكبرى في الدولة، بات اليوم جزءاً أصيلاً من معادلة الاستدامة البيئية، مدفوعاً برؤية ملكية سامية تؤمن أن التنمية لا تكون حقيقية إلا إذا كانت متصالحة مع البيئة، ومتجذرة في الضمير الأخلاقي للمؤسسات، وما يلفت الانتباه في هذا الإنجاز أنه لم يأتِ من باب الاستجابة الظرفية، بل من خلال خطة استراتيجية مدروسة، وتقييم بيئي شامل، وتكامل بين العمل الإداري والفكري داخل المؤسسة التشريعية.
إن ما يقدمه مجلس النواب اليوم لا يُقاس بشهادة دولية، بل بثقافة مؤسسية تنمو داخله، وتحمل في طياتها وعداً بتحول أوسع في العمل البرلماني البحريني، نحو مزيد من النضج المؤسسي والشفافية والمشاركة المجتمعية، هي لحظة فارقة يتلاقى فيها المحلي بالعالمي، والتقني بالقيمي، والمؤسسي بالإنساني، لحظةٌ تقول لنا إن البرلمان لم يعد حكراً على القوانين، بل صار حاضناً للقيم، ومنصّة لتجسيد وعي جماعي جديد، أكثر خضرة.. وأكثر حياة.
* إعلامية وباحثة أكاديمية