منذ أواخر القرن التاسع عشر، وتحديداً في عهد المغفور له الشيخ عيسىبن علي آل خليفة، بدأت مملكة البحرين تضع اللبنات الأولى لمنظومة صحية حديثة في الخليج، فقد شهدت البحرين عام 1893 إنشاء أول عيادة طبية نظامية على يد المبشّر صامويل زويمر في المنامة، وتُوّجت هذه الجهود بإنشاء مستشفى ميسون التذكاري عام 1902، بتمويل من عائلة أمريكية وبدعم مباشر من حاكم البلاد، ليكون أول مستشفى حديث في منطقة الخليج العربي، ومنذ ذلك التاريخ، كانت البحرين سبّاقة في ترسيخ دعائم الرعاية الصحية، سواء عبر المؤسسات العلاجية أو برامج الوقاية والصحة العامة، وكانت من أولى الدول في المنطقة التي أسّست وزارة للصحة، وأطلقت حملات وطنية للتطعيم، ومدارس للتمريض، ثم انتقلت إلى مرحلة الرقمنة الصحية التي نراها اليوم.نعيش اليوم في زمن تتسابق فيه الأنظمة الصحية حول العالم لتطوير خدماتها، وكذلك المنظومة الصحية في مملكة البحرين هي الأخرى على قدر عالٍ من الرقي والتطور، مدفوعة برؤية طموحة تتجلى في مشاريع البنية التحتية الجديدة، وتحسين جودة الرعاية الأولية، وتوسيع الخدمات الإلكترونية، وفي هذا السياق لا يسعني إلا أن أتقدم بجزيل الشكر والتقدير لسعادة وزيرة الصحة الدكتورة جليلة السيد، ولسعادة الدكتورة إجلال فيصل العلوي الرئيس التنفيذي لمراكز الرعاية الصحية الأولية، على جهودهم في تحسين تجربة المريض البحريني وتسهيل الوصول إلى الخدمات الصحية.ومن منطلق محاولتي للمشاركة في عملية التطوير كمستفيد من الخدمة الصحية، أشارك اليوم بتجربة شخصية مررت بها في مركز حمد كانو الصحي، ليس للتذمر بتاتاً، ولكن لأن عرض التجربة هو جزء من التقييم الموضوعي الذي يساعد على التطوير، فكنت قد طلبت استلام نتائج المختبر عبر الهاتف، وتم بالفعل تحديد موعد للمكالمة، وفي الوقت المحدد، تواصلت معي الطبيبة، لكنها كانت مكالمة خاطفة، بالكاد تتسع لطرح سؤال، فضلاً عن مناقشة تفاصيل الحالة، ومع ذلك، طلبت منها إرسال النتائج إلى بريدي الإلكتروني لمتابعتها مع الأطباء الاستشاريين الذين أراجعهم، مشكورين، خارج إطار المركز، فأمليت عليها البريد الإلكتروني عبر الهاتف، ولكن لم يصلني شيء.ولا ألوم الطبيبة، فالإملاء الصوتي معرض للخطأ بطبيعته، خاصة حين يكون مصحوباً بعجلة واضحة في الأداء، المشكلة لم تكن في اختلاف الرأي الطبي، فحين عرضت التحاليل لاحقاً على استشاريين، ونُصح بعدم البدء في دواء الكوليسترول في ظل معطيات الحالة والسن وتأثيرات الغدة، كان ذلك في سياق مهني مقبول، فالرأي الطبي يتفاوت باجتهاد الطبيب، لكن المشكلة هي في ضعف قناة التواصل وسرعة الإجراء الذي لم يفسح مجالاً للتبادل العلمي ولا حتى للنقاش.وهنا أقترح بكل ود أن تكون خدمة الاتصال الهاتفي، وهي خدمة ممتازة من حيث المبدأ، مرتبطة بالحجز الإلكتروني، ليُدوّن البريد بدقة، ويتحمل المريض مسؤوليته إن كتبه خطأ، أو يكون البريد مُدرجاً مسبقاً في ملف المريض، ليُرسل عليه كل ما يلزم، بل إنّي أتمنى أن تُدرج نتائج التحاليل، وصور الأشعة، والأدوية الموصوفة ضمن التطبيق الإلكتروني بشكل مباشر، ليتمكن المريض من تحميلها وطباعتها، ومشاركتها مع طبيبه المعالج أو الاستشاري الآخر، دون أن يضطر لحجز موعد آخر من أجل استلام النتائج فقط، وهذا التطوير التقني من شأنه تخفيف الضغط على المراكز، وتمكين المريض من اتخاذ قرارات صحية دقيقة وسريعة.ولعل الحادثة التالية تلخص بعض جوانب الخلل: بعد فشل إرسال البريد، اضطررت للذهاب مساءً للمركز لطباعة نتائج المختبر لأنني كنت على موعد في صباح الغد مع الدكتور عيسى أمين، وكنت بحاجة ماسة للنتائج، توجهت إلى الاستقبال، لكن الموظف أخبرني أن لا صلاحية له بالطباعة بعد التاسعة مساءً، ومع ذلك، فقد بذل جهدًا يُشكر عليه وتواصل مع الطبيبة المناوبة، التي تفهّمت الموقف ولبّت الطلب، النموذج المثالي لخدمة العملاء، ببساطة، كان في تجاوبهما، لكن المبدأ الإداري يبقى محل سؤال: لماذا لا يُتاح أمر الطباعة في كل وقت طالما أن النظام يعمل والموظف حاضر؟والأمر تكرر لاحقاً في الصيدلية، حين توجهت لاستلام الأدوية الشهرية لي ولأحد الوالدين بعد أوقات الذروة، تجنباً للازدحام، أخبرتني الصيدلانية أن الوقت غير مناسب وأن عليّ الحضور في فترة الدوام الرسمي وقبل 9 مساء، رغم أن النظام والدواء والموظف كلها كانت متوفرة، بل وحتى والدي حفظه الله، حين ذهب بعد صلاة الجمعة لاستلام أدويته، واجه الجواب ذاته، مع مرونة مشكورة من الموظفة التي ساعدته.فلماذا نحرم المريض من خدمة متوفرة فقط بسبب توقيت الحضور؟ هل الهدف هو التنظيم أم التقييد؟ وإن كانت هناك أنظمة تمنع الطباعة أو الاستلام بعد التاسعة، فلماذا لا تُراجع هذه الأنظمة بما يخدم واقع المرضى؟ ولماذا لا تكون النتائج معكوسة مباشرة في ملف صحي عبر تطبيق «صحتي» ليستطيع الاطلاع عليها شخصياً دون الحاجة لتدخل بشري والاستغناء عن الورق فهو ربما يرسلها عبر الواتساب لطبيبه الذي يتابع معه.في الختام، يبقى الشكر موصولاً للقيادات الصحية على جهودهم، فالمنجزات لا تُنكر، والتطوير لا يتوقف، وما هذه التجربة إلا دعوة للنظر في بعض التفاصيل التي قد تُثري التجربة الصحية أكثر، وتمنح المريض البحريني نظاماً أكثر مرونة وشفافية، يستجيب لاحتياجاته، ويعكس تطور الخدمات كما نرجوها جميعاً.
محمد ناصر لوري
Opinion
الموظف موجود + النظام موجود.. فلماذا لا تُقدَّم الخدمة الصحية؟
02 أغسطس 2025