مع تسارع التحول الرقمي في مختلف القطاعات على مستوى العالم، يبرز الذكاء الاصطناعي كقوة محورية تعيد تشكيل طرق إنتاج السلع، وتحسين كفاءة الأنظمة، وتعزيز القدرة التنافسية للاقتصادات. وفي هذا السياق، تقود مملكة البحرين هذا التحول بصمت، حيث يشهد قطاعها الصناعي تحولاً عميقاً مدفوعاً بتكامل تقنيات الذكاء الاصطناعي. ففي ممرات الصناعة التحويلية في المملكة، تنمو ثورة صامتة تضع البحرين في طليعة الثورة الصناعية الرابعة، إيذاناً بمرحلة انتقالية من الممارسات التقليدية إلى العمليات الذكية المدعومة بالبيانات.وعلى الرغم من أن العديد من القطاعات لاتزال في مرحلة استكشاف تطبيقات الذكاء الاصطناعي من خلال مشاريع تجريبية محدودة، فإن القطاع الصناعي البحريني يتميّز باتباعه نهجاً متكاملاً وشاملاً. فقد أبدت الصناعات التحويلية وصناعات معالجة المواد رغبة قوية في التحول الرقمي، حيث تبنت أنظمة متقدمة تغطي كامل منظومتها التشغيلية. ويعكس هذا التوجه المتنامي إدراكاً متزايداً بأن الذكاء الاصطناعي لا يُعد مجرد أداة لتعزيز الكفاءة، بل هو ضرورة استراتيجية لتعزيز القدرة التنافسية في سوق عالمي سريع التغير.وخلال السنوات القليلة الماضية، تسارعت وتيرة تبنّي تقنيات الذكاء الاصطناعي في البيئات الصناعية في البحرين بشكل ملحوظ. فقد تجاوزت الجهات الفاعلة في مجالات البتروكيماويات وإنتاج الألمنيوم والصناعات التحويلية مرحلة المشاريع التجريبية، لتصل إلى التكامل التشغيلي الكامل. وعلى خلاف ما هو متّبع في بعض القطاعات الأخرى، فإن الصناعات البحرينية تستخدم الذكاء الاصطناعي في وظائف محورية تشمل الصيانة التنبؤية، وتحسين العمليات، ومراقبة الجودة، والرصد البيئي، وتحليل المشتريات، مما أسهم في خلق سلسلة رقمية مترابطة داخل جميع مراحل العمليات التشغيلية.ويُبرز هذا النهج الشامل فهماً متقدماً لإمكانات الذكاء الاصطناعي التحولية. إذ باتت الخوارزميات المتقدمة تقوم بشكل مستمر بتحليل أداء المعدات، مما يمكّن من الكشف المبكر عن المشكلات قبل أن تتسبب في تعطل العمليات، ويسهم في إطالة عمر المعدات وتعزيز استقرار العمليات الإنتاجية. كما أحدثت الأنظمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي تحولاً في الإنتاج من خلال التنبؤ بخصائص المواد، وضبط معايير التصنيع للحفاظ على جودة المنتج بشكل مستمر.ولا يقتصر تأثير الذكاء الاصطناعي على أرض المصنع فحسب، بل يمتد ليشمل الجوانب التنظيمية والتشغيلية. فبفضل تقنيات الرؤية الحاسوبية، يتم ضمان جودة المنتجات بشكل لحظي، في حين تعمل النماذج التنبؤية على تحسين التحكم بالعمليات وكفاءة استهلاك الطاقة. كما ساهمت الأنظمة الذكية في تعزيز الامتثال البيئي من خلال مراقبة الانبعاثات واقتراح التعديلات اللازمة لضمان الالتزام بالمعايير التنظيمية. أما في مجال المشتريات، فقد مكّنت أدوات التحليل الذكي للإنفاق من تحسين أداء الموردين وتقليل التكاليف التشغيلية.وقد أسفرت هذه الابتكارات عن تحقيق مكاسب ملموسة في كفاءة التشغيل، وجودة المنتجات، وموثوقية العمليات، مما انعكس مباشرة في صورة مزايا استراتيجية لروّاد القطاع الصناعي في المملكة. ونتيجة لهذا النجاح، تم تكوين معرفة مؤسسية قيّمة، أصبحت اليوم محفزاً لتوسيع نطاق تبنّي الذكاء الاصطناعي في قطاعات أخرى، مما يساعد في بناء نموذج يمكن تكراره للتحول الرقمي على مستوى الاقتصاد الوطني بأكمله.وتشكّل البنية التحتية المتينة التي أرستها البحرين في مجال الذكاء الاصطناعي الصناعي أساساً لنمو قائم على الابتكار. ومع استمرار المملكة في توسيع قدراتها الرقمية، فإنها تعزز من تنافسيتها الصناعية، وتثبت مكانتها كمحرّك لتحول اقتصادي أشمل على مستوى المنطقة. وتُظهر تجربة البحرين في هذا المجال أن تبني التقنيات الحديثة من خلال نهج متكامل ومخطط بعناية يمكن أن يحقق فوائد اقتصادية ملموسة وشاملة، مقدّمةً نموذجاً ملهماً لكيفية مساهمة التكنولوجيا، عند مواءمتها مع الأولويات الوطنية، في دفع عجلة التنمية المستدامة وبناء اقتصاد تنافسي جاهز للمستقبل.
د. جاسم حاجي
Opinion
بناء المستقبل.. نمو الذكاء الاصطناعي في الصناعات البحرينية
02 أغسطس 2025