لم أكن أتوقع أن صوراً لفرجان المنامة، أو مقاطع مصوّرة برفقة الدكتور عيسى أمين، والأستاذ إبراهيم بشمي، والأستاذ حسن كمال، ستحظى بكل هذا التفاعل، فقد كنت أنشرها بدافع الحنين والتوثيق، فإذا بها تتحول إلى مساحة مفتوحة للذاكرة، يتدفق عبرها الناس بحكاياتهم وصورهم ومشاعرهم، وكأن كل حجر وكل زاوية في هذه المدينة تحمل سراً ينتظر أن يُروى.المنامة التي عرفتها في طفولتي ليست هي ذاتها اليوم، وأكيد هي ليست ذاتها التي عاشها أبي وأجدادي، الوجوه تغيّرت، والأزقة اتسعت أو اختفت، والمقاهي القديمة التي كانت مسرحاً للقاءات المثقفين والبحّارة لم يبقَ منها إلا القليل، لكن ما يدهشني دائماً أن الروح ما زالت هناك، تتخفى بين الجدران التي صمدت، وبين ملامح الناس الذين يتذكرون، حتى وإن تغيرت تفاصيل حياتهم.حين ذهبتُ إلى فريج الفاضل لأصوّر بعض البيوت القديمة، وجدت نفسي بين وجوهٍ لم تغادر الفريج يوماً، شيوخٌ ظلّوا أوفياء للمكان، يجلسون على عتبات البيوت كما كانوا قبل عقود، جلست معهم، استمعت إلى قصصهم التي انفتحت أبوابها مع ضحكاتهم، وكأننا عدنا معاً إلى زمن كانت فيه الأزقة تضج بالحياة البسيطة والقلوب المتقاربة، في وسط هذا التسارع، ووسط حداثةٍ تبتلع التفاصيل، وعولمةٍ متوحشة لا تعرف ذاكرة المكان، يولد فينا نوع من الحنين العميق، النستولويجا التي تدفعنا إلى التشبث بما تبقى، نعم، علينا أن نحفظ هذه الأمكنة، لا كمعمار وجدران فحسب، نحفظها كروح بحرينية أصيلة تستحق أن تظل نابضة فينا ولنا.الأمر لا يخص المنامة وحدها، فالمحرق، والقرى الممتدة على الساحل وفي الداخل، تحمل قصصاً مشابهة، هناك أماكن تغيّر وجهها العمراني، لكنها ما زالت تختزن في وجدان أهلها أصوات السوق، ورائحة المخابز، وضجيج الفرضة حين تعود السفن من الغوص، فهذه ليست مشاهد رومانسية من الماضي، هي مشاهد أساسية من حياة البحريني سابقاً، وهي المشاهد التي شكلت هوية المكان، وغيابها يعني فقدان أحد خيوط الذاكرة الجمعية.أمام هذه التحولات، تزداد أهمية المبادرات الشبابية التي تحاول إعادة إحياء الذاكرة المكانية، سواء عبر توثيق الأسواق والمقاهي والموانئ، أو من خلال الفعاليات التي تعيد ربط الناس بأماكنهم الأولى، فهذه الجهود، مهما بدت بسيطة، تشكل خط الدفاع الأول في وجه النسيان، وتمنح الأجيال القادمة مادة حية للتعرف على تاريخهم خارج الكتب والصور النمطية.ولذلك أتمنى على كل من يسكن فريجاً أو مدينة أو قرية أن يبدأ، ولو بهاتفه، في تسجيل هذه الحكايات، أن يوثق أسماء الشوارع قبل أن تُمحى، وأن يحفظ ملامح البيوت قبل أن تهدم، وأن يسرد قصص الناس الذين صنعوا هوية المكان، فالتاريخ ليس ما نقرأه في الوثائق الرسمية فحسب، ولكنه ما نحمله في ذاكرتنا الجمعية، وما نورثه للأجيال القادمة كجزء من حقيقتنا وهويتنا.
محمد ناصر لوري
Opinion
الذاكرة الحضرية.. حصن الهوية في زمن العولمة
09 أغسطس 2025