في غزة، لا تُقاس الحياة بالأيام، بل بالأنفاس التي تُنتزع من بين الركام، وبالدموع التي تجف قبل أن تجد من يمسحها. هناك، يعيشون تحت السماء التي تمطر ناراً، والأرض التي تضيق بما فيها من ألم، ووسط الحصار الخانق تفتقد غزة لأبسط مقومات الحياة.

الأطفال هناك لا يعرفون معنى الطفولة، فمدارسهم تُقصف، وألعابهم تتحول إلى رماد، وأحلامهم تُختصر في النجاة من الموت الذي يحاصرهم في كل لحظة، والبيوت التي كانت مأوىً للنساء والأطفال والمرضى والأيتام وكبار السن، تحولت إلى قبورٍ جماعية، والمستشفيات، التي يُفترض أن تكون ملاذاً للشفاء باتت تفتقر إلى المعدات، وتغص بالجرحى والمرضى بلا دواء.

غزة اليوم ليست مجرد قضية سياسية، بل اختباراً أخلاقياً للعالم بأسره. هي مرآة تعكس مدى تآكل القيم الإنسانية، وتكشف زيف الشعارات التي تُرفع في المحافل الدولية. حين يستشهد الصحفي، وهو يحمل كاميرته، والطبيب وهو يُسعف الجرحى، والطفل وهو يلهو في فناء منزله، فإنّ الإنسانية تكون قد خسرت جزءاً من روحها، والعالم أمام كل ذلك يعيش تناقضات المواقف.. فالصمت والبيانات والمسيرات الداعمة لم تعد تعبر عن موقف يواجه كل هذه الانتهاكات الإنسانية.

الازدواجية في المعايير، والتواطؤ بالصمت، والتبرير للقتل، كلها تحتم طرح تساؤل: هل لا تزال العدالة ممكنة؟ وهل يمكن للضمير العالمي أن يستيقظ؟ فأهل غزة يعيشون تحت حصار بري وبحري وجوي، ولكن، رغم كل شيء، يظل أهل غزة صامدين. يزرعون الأمل في أرضٍ تُقصف، ويغنون للحياة في زمن الموت. هم لا يطلبون سوى أن يُترك لهم حق الحياة، أن يُسمح لهم بأن يحلموا، وأن يعيشوا كما يعيش الآخرون.

ولأن يوم الشباب الدولي مناسبة قريبة مضت لا بد من استذكار أن وضع الشباب في غزة يُجسّد واحدة من أكثر صور المعاناة تعقيداً وألماً، إذ لا يُقاس عمر الشباب بعدد السنوات، بل بعدد الأزمات التي مرّوا بها، وعدد الأحلام التي اضطروا إلى دفنها قبل أن تولد. هم الجيل الذي وُلد تحت القصف، وترعرع في ظل الحصار، ليعانوا من فقدان الأمن والبيت والعمل وفرصة بناء مستقبلهم.

غزة اليوم تُذكّرنا بأنّ الأمن ليس رفاهية، بل ضرورة، وأنّ الإنسانية ليست خياراً، بل واجباً، فالأمن والأمان ليسا امتيازاً، بل حقاً لكل إنسان، مهما كانت جنسيته أو دينه أو موقعه الجغرافي. وحين يُصبح هذا الحق محل تفاوض أو تجاهل، فإنّ العالم يُعيد إنتاج الظلم باللامبالاة، فهل يستيقظ الضمير العالمي قبل أن تُمحى آخر ملامح الحياة من تلك الأرض؟