في زحام الحياة وتقلب أحوالها، تبقى القيم السامية هي العملة النادرة التي لا تفقد قيمتها ولا روحها مهما تغيّرت الظروف، فهي الثروة الحقيقية التي تصنع الفارق الكبير في حياة الإنسان ومن حوله. ومن أسمى هذه القيم «الإحسان»؛ ذلك الخلق الذي يجمع بين سموّ التعامل مع الله وجمال المعاملة مع الناس. وقد لخّص النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
إن تفاصيل الإحسان تشبه حجر الألماس في نقائه وبريقه، والجواهر الكريمة في جمالها وخلود أثرها، ولذلك نجده يضفي قيمةً ورونقاً على كل ما يلامسه وندرك أثره الجميل في أبسط التجارب: في خدمة، ابتسامة، أو تعامل مميز، أو موقف يُقدَّم بأجمل وأرقى صورة، ليترك أثراً خالداً وبصمة لا تُنسى في النفوس.
وتتجلى هذه القيمة في مختلف تفاصيل يومياتنا وتعاملاتنا؛ ففي نطاق الأسرة، يظهر الإحسان في بر الوالدين والتنافس في إسعادهما، بل وفي برهما حتى بعد الممات، وفي المودة والتراحم والإيثار والاحتواء بين أفراد الأسرة، وغض الطرف عمّا يعكّر صفو الحياة. وفي مجال العمل والحياة الوظيفية، يتجسد في إتقان المهام والإبداع في العمل وإثرائه، وفي الكلمة والابتسامة الطيبة، وخدمة الآخرين، ورقيّ التعامل الذي يرفع مكانة الفرد ويشيع روحاً إيجابية في بيئة العمل. أما في العالم الرقمي، فيتجلى في احترام خصوصيات الآخرين، ونشر المحتوى الهادف، وانتقاء الكلمات بعناية.
وعلى الصعيد الاجتماعي الأوسع، فتتعدد صور الإحسان لتشمل العفو وحسن الظن، والتماس الأعذار، وتجنب التسرع في إصدار الأحكام على الآخرين، ونشر الروح الإيجابية فيمن حولنا،وصِلة الرحم وزيارة المريض، ومساعدة الآخرين، والصدقة الطيبة، والتواضع مع الضعفاء بما يحفظ كرامة الإنسان، والغرس الطيب، وغيرها الكثير من الممارسات التي من شأنها أن تعيد دفء العلاقات، وتُقوي الروابط المجتمعية، وتضيف لها دفئاً واستقراراً.
أما حين يمتزج الإحسان بحب الوطن، فإن القيمة تصبح أعمق وأسمى؛ فحب الوطن لا يُقاس بالشعارات ولا بالأقوال، بل بما يُترجم على أرض الواقع من خلال ممارساتنا اليومية عبر الالتزام بالقوانين والأنظمة العامة، والقيادة الواعية التي تصون الأرواح والممتلكات، ومن خلال تعاملاتنا ووعينا بأدوارنا، وأن نكون خير من يمثل الوطن في كل مكان، وفي إثراء الوطن علمياً وثقافياً وسلوكياً، والمساهمة في طرح المبادرات المجتمعية التي ترفع شأن الوطن، وتعزز مسيرة تقدمه، فالإحسان للوطن يعني أن يكون كل فرد لبنة صالحة في صرحه، وشريكاً فاعلاً في مسيرة ازدهاره، حتى يصبح أثره جزءاً من هوية الأمة وقوتها.
ولذلك نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى استذكار هذه القيمة العظيمة والعمل بها، وإضفاء روحها الجميلة على حياتنا، عبر غرس مبدأ الإحسان كقيمة جوهرية في تربية الأطفال والناشئة، ليصبح خُلقاً ثابتاً في تعاملاتهم ومواقفهم. نعم، إنه استثمار أساسي ومعنوي طويل الأمد نزرعه في بيوتنا ونورّثه لأجيال الغد، ليصبح خُلقاً لا خياراً أو مسمى عابراً. فالقيمة التي تولد من القلب قادرة على أن ترقى بأمم عظيمة.
وختاماً .. الإحسان نعمة عظيمة، وقيمة تضيف جمالاً وروحاً لكل أمر، ومبدأ راقٍ، وأسلوب حياة، وعطاء لا ينتظر رد الجميل؛ لأنه ينبع من يقين راسخ بأن ما يُودع لله وفي هذه الحياة لا يضيع. وقد يُجزى صاحبه بعافية وسعادة تملأ القلب، وصلاح في الأبناء، وتيسير في الأمور، ولطف خفي في أوقات الشدة، وكما قال تعالى: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان».