يغيب عن أذهان الكثيرين أن مبدأ التفوق في العمل ليس اكتشافاً حديثاً، بل هو جزء أصيل من تراثنا الإسلامي. فقد قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ”إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه". وهذا القول الموجز يختصر جوهر الفاعلية المهنية والتميز الإداري، ويربط بين أداء العمل على أكمل وجه، ورضا الله عز وجل، وهو غاية لا تضاهيها غاية.
هذه التوجيهات النبوية لا تقتصر على الدعوة لإنجاز المهام، بل تدفع نحو بلوغ مستويات عليا من الإتقان والجودة. فالإتقان لا يُعد ترفاً مهنياً، بل هو قيمة أساسية ينبغي أن تصبح جزءاً أصيلاً من ثقافة المؤسسات.
القائد الذي يتبنى هذا المعنى يدرك أن مسؤوليته تتعدى توزيع المهام، لتشمل غرس روح التفاني والدقة بين أفراد الفريق، بحيث يُصبح كل عمل انعكاساً حقيقياً للجدية والاحترام.
الحديث لا يخص القادة فقط، بل يخاطب كل فرد في موقعه، مؤكداً على أن كل عامل مسؤول عن مستوى أدائه، مهما كانت طبيعة أو حجم المهمة. هذا الإحساس الفردي بالمسؤولية إذا ما ترسخ، يمكن أن يُحدث تحولاً جوهرياً في بيئة العمل، ويُسهم في خلق منظومة متماسكة يشعر فيها الجميع بأن دورهم مؤثر في النتيجة النهائية.
الإتقان يعزز من روح الالتزام والانضباط، ويُسهم في بناء بيئة عمل يسودها الاحترام المتبادل. وحين يُتقن الأفراد أعمالهم، ينخفض مستوى التوتر الناتج عن الأخطاء، ويُصبح التعاون أكثر سلاسة ووضوحاً. بل إن الإتقان يمنح الإنسان شعوراً داخلياً بالرضا عن النفس، وهو شعور لا يمكن للحوافز المادية أن تُوفره وحدها.
القائد الحقيقي، ليس دوره وضع معايير الأداء فحسب، بل أن يكون أول من يلتزم بها. فالثقافة المؤسسية لا تُفرض بالتعليمات، بل تُكتسب من خلال القدوة والسلوك اليومي. وعندما يرى الموظفون أن قائدهم يلتزم بالتفاصيل، ويحرص على الجودة، فإنهم بطبيعتهم يميلون إلى محاكاة هذا النموذج والسير على خطاه.
نحتاج إلى إعادة الاعتبار للجودة في كل ما نقوم به. نحن بحاجة إلى قيادات تُولي أهمية للطريقة التي تُنجز بها المهام، لا فقط إلى نتائجها. نحتاج إلى فرق عمل تؤمن بأن كل مهمة، مهما كانت بسيطة، تستحق أن تُؤدى بإخلاص ودقة.
حينما يُصبح الإتقان قيمة عامة وسلوكاً يومياً، تتحول بيئة العمل إلى مساحة للإبداع، ويغدو الأداء وسيلة لتحقيق الذات، لا مجرد التزام وظيفي. وهكذا نصل إلى الحالة التي يتقاطع فيها العمل مع الرسالة، وتتحقق من خلالها محبة الله ونجاح الإنسان في كل شيء.