مرّ رجلان ذات يوم بالقرب من مقبرة هادئة. توقف أحدهما فجأة، وحدّق في صفوف القبور الممتدة أمامه، ثم قال بتأمل: «تُرى، كم من هؤلاء حملوا أحلاماً لم تجد وقتها، وأفكاراً بقيت حبيسة صدورهم، ومشاريع لم تخرج للنور»؟!

كلمات بسيطة، لكنها تقف عند جوهر الحياة. إذ كم مرة نظن أن الوقت ملكنا، فنؤجل ونُراكم، ونسابق الأيام معتقدين أن الغد مضمون؟! نمضي في حياتنا وكأننا خارج الزمن، بينما هو يسير، ونحن لا ننتبه.

كثيرون منا يعيشون في دوامة لا تهدأ، مهام متراكمة، رسائل لا تنتهي، مواعيد متلاحقة، ومتطلبات شخصية تُصارع لأخذ مكانها في يوم مزدحم. وفي خضم هذا الركض المستمر، نتساءل، أين نحن؟! أين راحة البال، والعلاقات التي تُغذي أرواحنا، والصحة التي تدعم خطواتنا؟!

النجاح المهني طموح مشروع، بل وغاية نبيلة. لكن مهم أن نعرف ما الذي ندفعه في المقابل؟! إذ كم منّا استنزف نفسه في سبيل إنجاز، ليكتشف لاحقاً أنه خسر صحته، أو بَعُد عن أحبّته، أو عاش قلقاً مزمناً لا يعرف السكون؟!

هنا تتجلّى أهمية التوازن، لا كترفٍ اختياري، بل كضرورة وجودية. فالتوازن لا يعني تقسيم اليوم إلى ساعات متساوية بين العمل والعائلة، بل يعني أن تصنع انسجاماً يُبقيك حاضراً في كل جانب من جوانب حياتك، دون أن يبتلعك أحدها بالكامل.

الإنسان المتوازن لا يعود إلى العمل فقط بجسد مُستريح، بل بذهن متجدد، وروح أكثر صفاءً. وهذا ينعكس في إنتاجيته، ومرونته، وقدرته على الإبداع. في المقابل، من يعيش أسراً داخل العمل، ويُضخّم التفاصيل اليومية حتى تُرهقه، غالباً ما يجد نفسه غارقاً في التوتر، عرضة للأرق، ولأمراض نفسية وجسدية تتسلل بصمت.

فلنتذكّر أن العلاقات الاجتماعية والعائلية ليست تفاصيل جانبية، بل هي دعائم السعادة الإنسانية. فما جدوى النجاح إذا فرغ البيت من المشاعر؟! وكم من مسيرة مهنية لامعة تزامنت مع عزلة قاسية، أو فتور في الروابط الإنسانية؟!

من العلامات التي تنبهك إلى اختلال هذا التوازن الشعور الدائم بالإرهاق، والشعور بالذنب حين تقضي وقتاً مع أسرتك، والضعف في تواصلك مع الآخرين، أو عجزك عن إيقاف التفكير بالعمل حتى خارج أوقات الدوام.

البداية لا تحتاج إلى ثورة، بل خطوات صغيرة، لكن صادقة. خُذ وقتاً حقيقياً لمن تحب، كما تمنحه لاجتماعاتك. مارس شيئاً يُسعدك، حتى لو كان بسيطاً، نزهة قصيرة، قراءة هادئة، أو جلسة صمت مع ذاتك.

وكن شجاعاً في طلب الدعم ممن تثق بهم إن شعرت أنك عالق. الحياة ليست دفتر إنجازات فحسب. هي فسيفساء من المشاعر، والعلاقات، والتجارب التي تُشكل هويتنا. والنجاح لا يكتمل إلا حين يكون مرآة لتوازن داخلي يجعلك إنسانًا سليم الروح، لا مجرد موظف ناجح في السيرة الذاتية.

فلنعمل على بناء هذا التوازن، لا لنُرضي الآخرين، بل لنُحسن لأنفسنا. فالحياة أثمن من أن تُهدر في اللهاث، وأقصر من أن نعيشها في استنزافٍ مستمر.