فيصل الشيخ


نعم، فما ترونه من ألعاب إلكترونية لم تعد مجرد وسيلة للتسلية أو اختبار للمهارات، بل أصبحت عالماً موازياً يستهلك عقول الأطفال والمراهقين، ويعيد تشكيل وعيهم وسلوكهم في غفلة من الأسرة والمجتمع.

هنا، إذا كانت بعض الألعاب تُنمّي الذكاء وسرعة البديهة، فإن أخرى تتحول إلى أدوات خطيرة للتلاعب النفسي وزرع قيم مشوّهة، بل وحتى دفع الأبناء إلى نهايات مأساوية.

ما نشهده اليوم من تحركات دولية لحظر لعبة "روبلوكس" ليس إلا ناقوس خطر يذكّرنا بأن الأمر تجاوز حدود اللعب إلى فضاء أشد خطورة. فهذه اللعبة، ورغم شعبيتها الكاسحة بين الأطفال، تحتوي على محتويات غير ملائمة ومجتمعات افتراضية مفتوحة قد تتيح استغلال الصغار نفسياً أو فكرياً أو حتى جنسياً. لذلك، كان من الطبيعي أن تبادر عدة دول إلى منعها بشكل كامل، بينما تفكر أخرى جدياً في اتخاذ الخطوة نفسها حمايةً للأجيال القادمة.

القضية أعمق من مجرد لعبة واحدة. نحن أمام ظاهرة متنامية من الغزو الرقمي الذي يستهدف الأطفال بطرق مدروسة، مستفيداً من شغفهم بالاكتشاف وحاجتهم للتقدير وسهولة تأثرهم بالمؤثرات البصرية والنفسية.

كثير من الألعاب مصممة وفق آليات تحفيز الدماغ على إفراز "الدوبامين" أي هرمون السعادة، لتجعل الطفل أسيراً للشاشة، وبعضها يفتح بوابات للانحراف الفكري والسلوكي عبر إدخال مفاهيم العنف أو الإباحية أو الهوية الجنسية غير المناسبة للعمر، فيما يذهب آخر إلى أبعد من ذلك كما في "الحوت الأزرق" أو "مومو" حيث يتحول الترفيه إلى سلسلة من الأوامر المميتة. وفي ظل هذه المخاطر يصبح الحديث عن الحرية الشخصية أو الترفيه البريء نوعاً من التهاون مع جريمة منظمة تستهدف مستقبل أبنائنا.

المنع وحده ليس كافياً، وإن كان خطوة ضرورية. المطلوب هو استراتيجية متكاملة تتضمن تشريعات صارمة تفرض رقابة على الشركات المطورة، وتعاقب المنصات التي تسمح بنشر محتويات ضارة، وتكنولوجيا آمنة توفر منصات بديلة تجمع بين الترفيه والتثقيف، وتخضع لرقابة تربوية، إلى جانب وعي أسري يجعل الوالدين أكثر حضوراً في حياة أبنائهم الرقمية، وفهماً لما يلعبونه، وحواراً مستمراً معهم بدل الاكتفاء بالمنع. كما أن المناهج التعليمية الحديثة يجب أن تدرّس الثقافة الرقمية كجزء أساسي من التربية لتزويد الطفل بأدوات الحماية الذاتية من الاستغلال.

لم تعد المسألة ترفيها بل قضية أمن قومي وتحدٍ حضاري. إذ ترك أطفالنا فريسة لهذه التطبيقات هو بمثابة تسليم مستقبلنا لأدوات خفية تزرع التبعية والاضطراب في أجيال بأكملها.