لم يعد خطر المخدرات مجرد جريمة جنائية عابرة، بل تحوّل إلى معركة كبرى تمس الأمن السياسي والاقتصادي والأخلاقي والثقافي للأمم، العملية الدولية الأخيرة التي قادها التحالف الأمني الدولي بمشاركة 25 دولة وبالتعاون مع «اليوروبول» و«الأميريبول»، وأسفرت عن ضبط أكثر من 822 طناً من المخدرات بقيمة تجاوزت 2.9 مليار دولار والقبض على 12564 متهماً، ليست سوى انعكاس لحجم الظاهرة واتساع رقعة الخراب الذي تخلفه هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات باردة، بل قصصاً لمجتمعات كاملة كانت ستُغرق في دوامة العنف والفساد والفقر لو لم تُحبط هذه الشبكات.
سياسياً، تبرز هذه العملية كرسالة بأن العالم لم يعد يحتمل أن تعمل كل دولة بمعزل عن الأخرى، فالمخدرات لا تعترف بالحدود، بل تنسج شبكاتها عبر البحار والحدود والموانئ والمطارات، لذلك، فإن التحالف الأمني الدولي الذي وُلد عام 2017 وتوسع ليضم 11 دولة، برهن أنه نموذج متقدم للتكامل الأمني العالمي، ومع ذلك يظل السؤال قائماً: لماذا لا يتوسع ليشمل دولاً أخرى عربية وأجنبية طالما أن الضبطيات الأخيرة أثبتت أن الخطر يطال الجميع، حتى خارج نطاق التحالف؟ وهل سيُترجم هذا النجاح الأمني إلى دراسات معمقة ترصد النتائج، وتكشف آثار هذه السموم على الشباب الذين يمثلون نحو 60% من سكان العالم العربي؟
اقتصادياً، يمكن النظر إلى هذه العملية باعتبارها ضربة قاسية لاقتصاد الجريمة الذي يعتمد على المخدرات كمصدر أساسي للتمويل، سواء للجماعات الإجرامية أو حتى للتنظيمات الإرهابية، فالمليارات التي جرى تجفيفها كانت ستتحول إلى أسلحة، أو إلى شراء الذمم وإفساد المجتمعات، وهنا يبرز البعد الأخلاقي والثقافي؛ إذ إن المخدرات ليست مجرد تجارة سوداء، بل مشروع منظم لإضعاف الإرادة الجماعية للشعوب، وكسر طموحات الشباب، وتحويل الطاقات إلى هشيم يتناثر بلا معنى.
وفي هذا السياق، تبرز مملكة البحرين كأنموذج في وعيها الاستراتيجي بدخولها في مختلف القنوات الدولية لمحاربة هذه الآفة، فهي دولة لم تتردد يوماً في حماية شبابها وتنقيتهم من مخاطر السموم المبتكرة التي تُصنّع وتُخترع بوسائل خبيثة للتأثير على العقول والأجساد، البحرين بمؤسساتها الأمنية والاجتماعية والثقافية أثبتت أنها تتحرك بوعي شمولي، يدرك أن الشباب ليسوا مجرد أرقام في معادلة التنمية، بل هم الحصن والرهان لمستقبل الأمة.
في البعد المستقبلي، يبقى التحدي الأكبر هو أن المخدرات لم تعد تقتصر على المواد التقليدية كالكوكايين والحشيش والهيروين، بل تشهد ولادة مستمرة لأنواع مصنّعة تُخترع في المختبرات تحت أسماء جديدة مثل «الفنتانيل» أو «السبايس»، وهي مواد أشد فتكاً وأكثر قدرة على الانتشار بين المراهقين بأسعار زهيدة، فما الذي يمنع أن نرى قريباً موجات أشد خطورة من «مخدرات المستقبل» التي تهدد ليس الأجساد وحدها، بل البنية العقلية والنفسية للأجيال؟
القصة الأعمق هنا أن المخدرات ليست مجرد «آفة» بالمعنى التقليدي، بل هي مشروع عالمي خفي يضرب جذور المجتمعات، ويزرع الوهن في مستقبلها، ووراء كل رقم من الـ12564 متهماً، قصة شاب أو فتاة وقعوا ضحايا لجشع شبكات عابرة للحدود، لذلك، فإن أي جهد دولي لم يعد مجرد واجب أمني، بل هو فعل وجودي لحماية الإنسانية من الانهيار، ولعل هذه العملية، رغم عظمتها، تذكير لنا جميعاً بأن الحرب على المخدرات ليست معركة أرقام فحسب، بل معركة وعي ومصير، وأن الخطر يظل قائماً ما لم تتحول هذه النجاحات الأمنية إلى سياسات شاملة تعالج الجذور، وتعيد للشباب حقهم في حياة نقية وآمنة.
* إعلامية وباحثة أكاديمية