ماذا رأيت؟ وماذا سمعت؟ في لقاء الرئيس أحمد الشرع مع مجموعة من الصحفيين العرب بعد عرض أجزاء من اللقاء الذي تم قبل أسبوعين في دمشق؟ سمعنا كلاماً يقال للمرة الأولى في سوريا علناً ومن رئيسها.

ها هي«الدولة الوطنية» يعاد لها الاعتبار بعد أن طالها من التقريع والذم والقدح الكثير في سوريا البعث التي عابت على كل من تبنى هذا الفكر السياسي الذي يضع دولته الوطنية أولاً وقبل أي شيء آخر فوق أي اعتبار ووسمته بالرجعية، كانت الدولة عائقاً وسداً أمام وحدة الأمة، وبعثها من جديد، حين كان شعارها أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، أو أمة إسلامية واحدة، حين رفعتها جماعة الإخوان المسلمين المعارضة في سوريا، كلاهما فكر أممي لا يتسع فضاؤه للدولة القطرية.

فيأتي على سوريا تحديداً يوم، وفي عقر رواد القومية العربية يعلن فيها رئيسها بأن سوريا دولة وطنية هي أولاً في الاعتبار وثانياً وثالثاً فلا ضم ولا وحدة إجبارية، ولا توسع ولا أحلام من هذا القبيل، بل واقعية ترضى بها، وتقف على أرضها الصلبة.

هذه هي سياسة الممكن لا المفروض، وهذه سياسة وفكر أنظمة الحكم في دول الخليج العربي منذ تأسيسها كمشيخات ثم إمارات ثم دول ومملكات، حيث قامت منذ تأسيسها إلى اليوم على فكرة «الدولة الوطنية» المستقلة ذات السيادة والمعنية بداخلها أمنياً واقتصادياً، وتعنيها هويتها الوطنية أولاً ووحدة شعبها وأراضيها، دون أن يعني ذلك انسلاخها من هويتها العربية.

وكم كنا قد اختصرنا على أنفسنا هذا الطريق الشاق من المكابرة ولي الحقائق والاندماج بالجبر وبالضم وقيام الوحدة ليلاً بالبيان رقم واحد، وفضها سيرة نهاراً بالبيان رقم 2، كنا قد قطعنا شوطاً ونحن نهتم بشؤوننا الخاصة ونمونا وكبرنا، وقويت شوكتنا وإن كنا صغاراً ودويلات، كي لا نكون قسراً أمة عربية واحدة ولو بالقوة، كما كنا قد اختصرنا طريق النهضة لو تعامل الشمال العربي كله بهذا التفكير المنطقي الذي عابوه علينا، وكان مذمة لنا في ما مضى. كم سخر الفكر القومي من دول الخليج، واعتبرها رجعية ومجرد دويلات تريد كل منها أن يكون لها كيان مستقل، فلا تنضم ولا تدمج إلا برضاها وبخيار شعبها، وكأن ذلك الخيار مذمة وعيب.

اليوم يأتي رئيس خاض الحروب منذ صغره من أجل «الأمة» وكان يحلم بجمع كل الدول العربية تحت راية واحدة فيما مضى، حتى إذا ما كبر واستوعب الحقائق الصادمة، لم يجد غضاضة في مراجعة هذا الفكر والعودة للحق.

الرئيس السوري يقول يريد أن يهتم ويعني بالشأن السوري، ويبني علاقات سليمة وصحية مع كل دول الجوار -حتى وإن كانت إسرائيل- ويريد أن يطبق النموذج الخليجي في التنمية الاقتصادية ويريد أن يتخلص من الرغبة الانتقامية وعدم الانشغال بها وبالحروب التي لا تنتهي أبداً.

يريد أرقاماً لا شعارات، يريد تقارير اقتصادية لا بيانات تعبوية، يريد أن يعد لسوريا فرصة كي يعود المغتربون إليها طوعاً وحباً وأمناً وسلاماً وبلد فيه رزقه، باختصار تلك هي الدولة الوطنية التي آمنت بها ولم تخجل منها دول الخليج العربي، ولم تستسلم لجميع أنواع الابتزازات والاتهامات بأنها تخلت عن عروبتها بهذا الفكر السياسي. إنها سياسة الممكن والوقوف على أرض واقعية صلبة، وإن كانت جرداء قاحلة أفضل ألف مرة من التحليق في الفراغ الوردي فيدوي سقوطها.

فخامة الرئيس أحمد الشرع نتمنى له ولسوريا الحبيبة كل التوفيق والنجاح، وأن تكون نموذجاً يشار لها بالبنان.