كان البحر عند الصياد البحريني أكثر من مهنة؛ كان بيتاً أزرقَ يفتحه مع الفجر، ويغلقه مع التراب، وحين ضاقت عليه السبل في سنوات الفوضى، رأى زوارق غريبة تنزلق في المرافئ، وتلتهم من رزقه ما استطاعت، دخلت طرق صيد متوحشة، وشاعت حِيَل التأجير بالباطن، وارتبك السوق بين غشٍ في المعروض، وتدنٍ في الجودة، فتقلّبت موائد الناس وتعبت الثقة، ظل الصياد يرصُد ماءه وهو يُستنزف، ويحسب أيامه على أمل أن يجيء يومٌ يُعاد فيه البحر لأهله، لا لجيوب العابرين.
اليوم، والقرار يدخل حيّز التنفيذ، يشعر الصياد أن الدولة سمعت وجعه، حضور بحرينيٍ على ظهر سفينة الصيد ليس إجراءً بيروقراطياً؛ إنه إعلان هوية ومسؤولية، حين يكون النوخذة بحرينياً، يعلو معيار السلامة، وتُصان أخلاقيات المهنة، وتُحفظ البيئة من عبث أساليب لا تعبأ بمستقبل المخزون، هذا القانون يغلق ثغرات التأجير والتقاسم الملتبِس للمصالح، ويعيد ترتيب السلسلة من البحر إلى السوق: ضبطُ التراخيص، تحديدُ الطواقم، وإلزامُ الإبراز والامتثال. النتيجة المتوقعة ليست رمزية، بل محسوسة في سلال الصباح: أسماكٌ آمنة، أسعارٌ منصفة، وثقةٌ تعود إلى المستهلك.
اقتصادياً، ينعكس القرار على دورة التجارة والاستيراد والاستثمار، تنظيم المهنة يخلق حوافز لتمويل تحديث القوارب والمعدات، ويجذب المستثمر المحلي إلى سلاسل التبريد والتغليف والتسويق البحري، ويقلل فاتورة الاستيراد حين يستعيد المخزون عافيته، ومع سرعة تنفيذ القرار بقرار قيادي مباشر، من دون انتظار دورة تشريعية جديدة، تُبعث رسالة حازمة بأن الأمن الغذائي البحري أولوية وطنية لا تؤجَّل، وأن الحوكمة الفعّالة ممكنة حين تتوافق الإرادة مع المصلحة العامة.
لكن الإنصاف لا يكتمل بلا مسؤولية، هل سيستعين النوخذة البحريني مجدداً بالأجنبي؟ ربما، حيث تظل الحاجة قائمة للأيدي المساعدة، لكن ضمن سقفٍ تنظيمي واضح لا يفرّغ القانون من روحه، الرهان الحقيقي أن تتحول الاستعانة المؤقتة إلى مدرسةٍ عملية لتوطين المهارة: برامج تدريب معتمدة، شهادات صلاحية، وحدات سلامة بحرية، وتعاونيات تُشرك الشباب، وتمنحهم مسارات مهنية لائقة، هكذا فقط لا تتكرر الحلقة القديمة.
بيئياً، سيكبح الالتزام طرق الصيد المدمّرة ويرفع وعي الحِمى البحرية، فتتعافى الشعاب وتستقر مواسم التكاثر، ويستعيد البحر قدرتَه على العطاء، اجتماعياً، يعود الاعتبار لعائلاتٍ ارتبطت بالبحر جيلاً بعد جيل، فيكبر في نفوس الأبناء معنى الإرث ومعنى الوطن، وسياسياً، يرسخ القانون الثقة بين المواطن ومؤسساته، حين يرى أثر القرار في معيشته اليومية.
إنه يومٌ ينتقل فيه الصياد من خانة المتفرج إلى سُدّة القيادة على مركبه، ويستعيد البحريني حقه في بحرِه ومسؤوليته عنه، وإذا أُحسن التطبيق والرقابة، وتكاملت المنظومة التدريبية والتمويلية، فلن تكون هذه خطوة عابرة، بل بداية عهدٍ يعود فيه الملح إلى مذاقه، والبحرُ إلى أهله.
* إعلامية وباحثة أكاديمية