في زحام المنصات، وبين مقاطع الطهي والضحك والأخبار، يطلّ علينا مشهد مختلف: امرأة تحدّق إلى الأعلى وتردد بصوت خافت كأنها تستحضر سراً غامضاً من أعماق الكون: «أنتِ كون... أنتِ رحم كوني... أنتِ متصلة بالرحم الكوني». كلمات مشبعة بالرمزية، مغلفة بإيحاء يوحي بالعمق، وكأنها مفاتيح لحقيقة كبرى مخبوءة عن البشر. لكن هذه المرأة نفسها لا تكتفي بذلك، بل تعود في مقطع آخر لتزعم أنها تلقت إشارات سماوية حين رأت سلحفاة، وربطت ذلك بقصة سيدنا موسى عليه السلام وأمه، وكأن الوحي يمكن أن يُعاد تفسيره عبر حيوان بطيء الحركة. للوهلة الأولى قد يبتسم المتابع، أو يضحك ساخراً، لكن خلف هذا المشهد تكمن ظاهرة تستحق التوقف والتأمل.
هذه المقاطع لا تعيش من فراغ، بل تبنى على أدوات نفسية تتسلل إلى العقل من حيث لا نشعر. طريقة النطق البطيئة، النغمة العميقة، تكرار العبارات، كلها تعمل على خلق مناخ يشبه الطقس الشعائري. وحين يتلقفها مراهق يعيش فراغاً أو يبحث عن معنى، قد تتحول في ذهنه إلى «حقيقة» لا تحتاج إلى دليل. فالكلمات حين تُقال بثقة، وبإيحاء يوحي بالسمو، تصبح قادرة على إزاحة الحدود بين الدين والخيال، بين الوحي والأسطورة، وبين العقل والرمز.
ولكي نفهم المشهد بصورة أوسع، لا بد أن ندرك أن هذه الموجة لها جذور ضاربة في ثقافات العالم. ففي الصين تحدثوا منذ قرون عن «تشي» باعتبارها طاقة الحياة التي تسري في الجسد والكون، وفي الفلسفة الهندية ظهر مفهوم «برانا» المرتبط بالتنفس والوعي، بينما في الغرب صيغت الفكرة باسم «ريكي»، وارتبطت بممارسات اليوغا والتأمل وما يُقال إنه شفاء روحي عبر موازنة الطاقة. وما يحدث اليوم هو إعادة تغليف لهذه المعتقدات القديمة، لكنها هذه المرة تُقدَّم في صورة مقاطع قصيرة، مزودة بموسيقى خلفية وإخراج بصري جذاب، وأحياناً بلمسة دينية مغلوطة لزيادة تأثيرها.
المراهقون والشباب هم الأكثر عرضة لهذا الخطاب، لأنهم يعيشون في مرحلة عطش للأسئلة، يبحثون فيها عن إجابات سريعة ومقنعة. وهنا يجدون أنفسهم أمام مقاطع توهمهم بأن الكون يدار بقوى خفية، وأن أسرار النبوة يمكن أن تُكشف عبر رموز مبهمة، وأن السلام الداخلي يُشترى بكلمات تتكرر بلا نهاية. إنها ليست مجرد مواد ترفيهية؛ إنها أدوات تصنع قناعات، وتربك الوعي، وتزرع في النفوس اعتياداً على تلقي المعلومة بلا تمحيص.
ومن زاوية العقيدة، فإن ربط قصص الأنبياء بمثل هذه الرموز الغامضة يقترب من مناطق لا تمت بصلة إلى جوهر الإيمان. إن الوحي ليس تجربة بشرية فردية يمكن تفسيرها بسلحفاة أو طاقة كونية، بل هو هداية من الله عز وجل. قال تعالى في محكم تنزيله: «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»، «النجم: 4»، ليضع حداً فاصلاً بين الوحي الإلهي وما سواه من خيال أو إلهام شخصي. وحين يُساوى بين المقدس والرمزي، تتشوش صورة الدين في عقول الجيل الجديد، ويختلط عليهم الحق بالباطل.
لكن الحقيقة الأعمق أن هذه المقاطع ما كانت لتلقى هذا الرواج لو لم يكن هناك فراغ. فالشاب الذي لا يجد من يحتضن أسئلته الكبرى، ولا يلقى بيئة فكرية وروحية تغذيه باليقين، سيلجأ إلى الشاشة بحثاً عن إجابة، حتى وإن جاءت في شكل «رحم كوني» أو «رموز سلحفاة».
وبصراحة.. ليست المشكلة في امرأة تردد عبارات غامضة، بل في الأثر الذي تتركه كلماتها في وعيٍ ما زال يتشكل. والخطر ليس أن نسمعها، بل أن نسمح لها بأن تغرس الوهم مكان الحقيقة. لذلك يبقى السؤال معلقاً: هل نترك أبناءنا أسرى لمقاطع تتلاشى مع إغلاق الشاشة، أم نمنحهم مناعة فكرية وروحية تجعلهم يميزون بين نور الوحي وضباب الخرافة؟ إن الوحي الحق لا يُختصر في رموز غامضة، ولا يُستقى من مشاهد عابرة، بل هو نور من عند الله يهدي القلوب والعقول معاً، ويمنح الحياة معناها الأسمى.