ما زلنا نتذكر قصة (الأب) إياد الدرويش وابنته آية، صاحبة الثلاث سنوات، التي وقعت في غزة 2021، حيث كان الأب وسط أصوات القصف والدمار يجلس يُضحك ابنته: وكلما سقط صاروخ كان يُصفق ويبتسم وكأن الصوت مجرد لعبة. أخفى خوفه وألمه ليمنحها الأمان والطمأنينة.
نجحت ضحكاته وصبره على المحنة في النجاة بابنته بعد أن ظل يحرسها ويبعد عنها الرعب حتى النهاية رغم أن قلبه وجسده قد أنهكتهما المحنة..
هكذا كان والد البطلة البحرينية الصغيرة مريم فؤاد شهاب التي روت قصتها الإنسانية بالقاهرة أرض الأهرامات والنيل العظيم، وتحت سقف قاعة الأستاذ محمد حسنين هيكل بنقابة الصحفيين المصريين قبلة المثقفين والمفكرين وأصحاب الإبداعات والقصص الملهمة، اجتمع العشرات من مثقفين وإعلاميين وأساتذة جامعات ليشهدوا حدثاً إنسانياً فريداً: تدشين الطبعة الثالثة من كتاب «حبيبتي ابنتي.. سميتها مريم» للبروفيسور البحريني الدكتور فؤاد شهاب.
لم يكن الحفل مجرد إعلان عن كتاب جديد، بل كان مناسبة إنسانية بامتياز، ارتسمت خلالها على وجوه الحضور ابتسامات دافئة امتزجت بدموع التأثر، وكأن الجميع صار شريكاً في القصة التي تجاوزت حدود الأسرة والوطن لتصبح جزءاً من الوجدان العربي.
الحفل أقيم برعاية البروفيسور عبدالله بن يوسف الحواج، الرئيس المؤسس للجامعة الأهلية ورئيس مجلس الأمناء، الذي أكد في كلمته على عمق الروابط الأخوية بين البحرين ومصر.
وشدد على أن إطلاق هذا العمل من القاهرة هو بمثابة إشادة بدورها التاريخي ومكانتها كعاصمة للثقافة العربية، ورسالة واضحة أن الثقافة قادرة على مدّ الجسور بين الأشقاء مهما تباعدت الجغرافيا.
وأوضح الحواج أن ما يقدمه شهاب ليس مجرد قصة شخصية، بل شهادة إنسانية تُظهر قدرة البحرين على إنتاج نماذج مضيئة تحمل رسالة إنسانية راقية تتردد أصداؤها في كل بيت عربي.
أما الدكتور فؤاد شهاب، والد البطلة الصغيرة مريم، فقد أخذ الحضور في رحلة وجدانية عميقة. تحدث بصوت الأب الذي عايش الصدمة حين اكتشف أن ابنته وُلدت فاقدة السمع، وكيف تحولت تلك اللحظة القاسية إلى بداية طريق طويل من البحث والعلاج والدعم، انتهى بقصة نجاح تفيض بالأمل.
قال شهاب عبارته التي لاقت صدى واسعاً: «الأبوة ليست مجرد عاطفة، بل مشروع حياة يقوم على التضحية والحب غير المشروط».
الكتاب، في جوهره، مرآة إنسانية صادقة تعكس رحلة تحوّل الألم إلى قوة. فهو يطرح سؤالاً عميقاً عن معنى الإعاقة، ويؤكد أن العجز الحقيقي ليس في الحواس، بل في العقول التي ترفض أن ترى النور.
ومن رحم هذه التجربة وُلدت مبادرات عملية، كان أبرزها تأسيس مركز الأمير سلطان لتنمية السمع والنطق في البحرين، الذي أصبح منارة لأطفال فقدوا السمع وأسرهم، ليتحوّل الألم الفردي إلى أمل جماعي.
ما ميّز هذه الأمسية أنها لم تكن فقط عن «مريم»، بل حملت أيضاً رمزاً لعمق العلاقات البحرينية المصرية الممتدة عبر عقود. هذه العلاقات، التي تمتد جذورها إلى التاريخ الحديث والمعاصر، لم تقتصر على الجانب السياسي فحسب، بل شملت مجالات التعليم والثقافة والإعلام والاقتصاد والدفاع. البحرين كانت دوماً سنداً لمصر، ومصر كانت دائماً بيتاً ثانياً للبحرينيين والعرب كافة.
ومن هنا، فإن اختيار القاهرة ليُطلق منها كتاب «مريم» ليس مصادفة، بل تأكيداً على أن الشراكة بين البلدين لم تفقد بريقها، بل تزداد رسوخاً مع مرور الزمن.
لقد أثبتت أمسية «مريم» أن الثقافة والإنسانية هما الطريق الأقصر لتعزيز العلاقات بين الشعوب. فقد امتزجت المشاعر الإنسانية بالبعد القومي، ليخرج الجميع برسالة واضحة: أن التعاون العربي ليس خياراً ترفيهياً، بل ضرورة لمستقبل أفضل.
لم يعد كتاب «مريم» مجرد قصة عائلية، بل أصبح أيقونة عربية تُذكّرنا بأن الأمل يولد من رحم الألم، وأن التضامن بين الشعوب قادر على أن يحوّل التحديات إلى إنجازات.
* دكتوراه في الإعلام الرقمي