مع بداية كل عام دراسي، لا يسعنا إلا أن نرفع الدعاء لأبنائنا وبناتنا الطلبة بأن يكون عامهم مكللاً بالنجاح ومفتوحاً على أبواب البركة، فهم جيل اليوم الذي نحمل له الآمال، وهم أمل الغد الذي نحلم له بمستقبل أكثر إشراقاً، إن هذه المناسبة تذكير دائم بأن التعليم رحلة حياة تبدأ من اللحظة الأولى التي يخطو فيها الطفل عتبة الصف.
في الأيام الماضية توقفت عند دراسة للكاتبة جيسيكا ألكسندر تناولت التجربة الدنماركية في إدراج التعاطف كجزء أساسي من المناهج، التجربة حملت عنواناً بديعاً هو «وقت الصف»، وهي ساعة أسبوعية يتفرغ فيها المعلم والطلاب لممارسة اللطف، ومناقشة التحديات الشخصية أو الأكاديمية، وتنمية الوعي العاطفي، الغاية من هذه الحصّة لا تقتصر على تعزيز السلوك الجيد، وإنما تمتد إلى تدريب الدماغ ذاته، فقد أظهرت أبحاث علم الأعصاب أن ممارسة التعاطف تُقوّي القشرة أمام الجبهية، وهي الجزء المسؤول عن تنظيم العواطف وتبنّي وجهات نظر الآخرين.
بهذه الطريقة هناك نوع من «إعادة برمجة» عقول الأطفال الدنماركيين عصبياً ليكونوا أكثر قدرة على فهم الآخرين ودعمهم، والنتيجة كانت مذهلة: انخفاض معدلات التنمر، تعزيز التعاون على حساب التنافس، ونشوء جيل يتعامل مع الآخر بعقل متفهم وقلب مفتوح، هذه التجربة تجسّد استثماراً عميقاً في بناء الشخصية منذ الصغر، بعيداً عن فكرة الترف التربوي.
حين قرأت تفاصيلها، وجدت نفسي أفكر في واقعنا المحلي، فالمدرس الذي يواجه صفوف الحلقة الأولى في البحرين كثيراً ما يشكو من تفاوت واضح بين الطلبة: طفل قادم من الروضة يحمل معه بعض أبجديات التعامل مع الآخرين، يعرف كيف يجلس في مقعده، يتفاعل مع المعلم، يمسك بالقلم بثقة، ويشارك زملاءه في اللعب والحديث؛ وآخر يدخل المدرسة مباشرة من البيت، يكتشف هذه الأساسيات لأول مرة وسط بيئة جديدة مزدحمة، فيتعثر في الاندماج ويحتاج إلى جهد مضاعف من المعلم وزملائه ليلحق بالركب.
هنا تبرز أهمية أن تكون هناك سنة إلزامية واحدة على الأقل في الروضة قبل الانتقال إلى التعليم الابتدائي، هذه السنة ليست عبئاً إضافياً على الأسرة، وإنما هي جسر تمهيدي يربط الطفل بالمدرسة من أوسع أبوابها، وهي فرصة ليختبر فيها النظام، فيتعلم أن للوقت قيمة، وأن للمعلم مكانة، وأن للزملاء حقوقاً وواجبات، فالروضة لا تمنح الطفل مهارات أكاديمية بقدر ما تمنحه لغة التعامل مع الآخرين وفهم الإطار الاجتماعي للتعلم.
وعندما تصفحت بعض النقاشات على وسائل التواصل الاجتماعي، وجدت أن هذه المشكلة لا تخص البحرين وحدها، كثير من المعلمين في دول أخرى من المنطقة يرفعون الصوت ذاته: لو كانت الروضة إلزامية لتغيرت صورة الصفوف الأولى جذرياً، والمعلمون يرون بأعينهم الفارق بين الطفل المهيأ مسبقاً والطفل الذي يدخل المدرسة فجأة، الفارق يظهر في سرعة الفهم، في القدرة على التعبير، في الانسجام مع الأنشطة، وحتى في الثقة بالنفس.
لقد عُرضت مقترحات في فترات سابقة حول جعل الروضة إلزامية، لكن مازال الأمر بحاجة إلى نقاش موسّع وإرادة تنفيذية تتبنّى هذه الرؤية، فالتعليم الحديث لم يعد يقتصر على تلقين العلوم، وإنما أصبح مشروعاً لبناء الإنسان منذ لحظة الوعي الأولى، ولعل الروضة، في هذا السياق، هي المفتاح الذي يفتح الباب أمام مدرسة أقل صخباً وأكثر تنظيماً، وأمام طفل يدخل عامه الأول وهو يعرف إلى أين يتجه وكيف يبدأ.
وأمام هذه الرؤية، لا يسعني إلا أن أجدّد الإشادة بسعادة وزير التربية والتعليم الدكتور محمد بن مبارك جمعة، الذي عرفناه منذ أن تسلّم حقيبة الوزارة مترجماً للأفكار والمقترحات إلى أفعال ملموسة، نحن هنا نطرح وجهة نظر من خارج المنظومة التعليمية، نرى أن إلزامية سنة واحدة على الأقل في الروضة ستُسهم في تهيئة الأطفال للمدرسة وتسهيل مهمة المعلمين، غير أن القرار في النهاية بيد من تدرّج في هذا القطاع ويعرف تفاصيله الدقيقة، فالثقة كبيرة بأن الوزير هو الأقدر على تقدير ما إذا كانت هذه الخطوة نافعة للمرحلة أم أن الظروف تحتاج إلى مسار مختلف، فالميدان بين يديه وهو الأعرف بتفاصيله.