نيفين مدور


البداية مع الغيتار.. وعبادي الجوهر كان الشرارة الأولى

أول لحن: "قالوا ترى" كانت بوابة العود إلى القلب

مزج التراث العربي مع الإيقاعات العالمية.. هوية موسيقية جديدة

الخوذة والعباءة السوداء.. علامة بصرية قبل أن تكون مجرد زي

الغموض ليس غاية.. بل وسيلة لتركيز الجمهور على الموسيقى

رسائل مؤثرة من جمهور عالمي.. موسيقاي تفتح أبواباً لثقافات جديدة

التكنولوجيا رافعة لصوت العود في عالم حديث

في كل رحلة فنية استثنائية، هناك دائماً حكاية تبدأ من لحظة شغف صغيرة، تنطلق بعدها ومضة الإلهام لتفتح طريقاً جديداً. وهذا تماماً ما ينطبق على قصة العازف البحريني الغامض الذي بات الجمهور يعرفه باسم "يد العود"، محتجباً خلف خوذة وعباءة سوداء جعلت منه رمزاً مختلفاً في عالم الموسيقى.

بدأ مشواره بتجربة بسيطة مع الغيتار، قبل أن يأسره سحر العود بصوته الدافئ وقدرته الفريدة على ترجمة المشاعر. ومنذ لحظة الاستماع إلى عزف الفنان عبادي الجوهر، نما داخله شغف لا يخمد، ورغبة في مد جسور بين المقامات العربية العريقة والألحان العالمية الحديثة. عندها تشكلت هويته الفنية المتفردة، فانطلقت شرارة الإبداع لتضعه أمام آلة لم تعد مجرّد وسيلة للعزف، بل نافذة يطل منها على عالم رحب يمزج بين الحنين والأصالة، وبين الجرأة والابتكار.

اختار أن يبتعد عن الأضواء التقليدية، ليجعل من الغموض جزءاً أصيلاً من حضوره الفني. فحوّل الخوذة إلى علامة بصرية تميزه وتثبّت صورته في ذاكرة الجمهور، وفي الوقت نفسه منح مستمعيه مساحة أوسع للتفرغ لجوهر موسيقاه. وفي زمنٍ تتقاطع فيه الثقافات وتتسارع فيه الإيقاعات، قرر أن يبني جسراً بين الشرق والغرب، ليقدّم مزيجاً موسيقياً عابراً للحدود، قادراً على ملامسة القلوب أينما كانت.

ولأن الفن الحقيقي لا يعرف القيود، تجاوزت ألحانه حدود البحرين لتصل إلى مستمعين من ثقافات شتى، فاتحةً أمامهم نافذة للتعرف إلى العود العربي بروح جديدة.

في هذا الحوار، تسلّط "الوطن" الضوء على مسيرة "يد العود" الفريدة، ليكشف لنا حكايته بين الأصالة والتجديد، وبين الغموض والحضور، وبين حلم الانطلاق من البحرين إلى آفاق العالمية.

قبل أن تصبح "يد العود" الغامض الذي يعرفه الجمهور اليوم، كانت هناك بداية.. كيف بدأت حكايتك مع العود؟ ومتى كانت أول مرة أمسكت فيها العود؟

- بدأت حكايتي مع آلة العود من فضول تحول سريعاً إلى شغف عميق. فقد بدأت أولاً بالعزف على الغيتار، ولم أكن أستمع كثيراً إلى الموسيقى العربية في تلك المرحلة. لكن ما إن استمعت إلى عزف الفنان عبادي الجوهر حتى أسرني سحر العود، وحاولت أن أقلد أسلوبه على الغيتار، غير أنني اصطدمت بحدود هذه الآلة، إذ لا يمكنها التعبير عن المقامات الدقيقة والأنغام الخاصة بالموسيقى العربية. عندها أدركت أن الطريق الحقيقي يكمن في العود، فاقتنيت أول عود لي في سنوات مراهقتي. ومنذ اللحظة التي أمسكت بها هذه الآلة شعرت أنني دخلت عالماً آخر، عالماً يتيح لي التعبير عن مشاعري وأفكاري بصدق لا يقارن بأي آلة موسيقية أخرى.

هل تتذكر أول لحن أو أغنية عزفتها؟

- نعم، أتذكر ذلك جيداً. كانت أغنية "قالوا ترى" للفنان عبادي الجوهر، فقد كانت أول ما شدني إلى العود وأول ما حاولت عزفه بجدية. كنت أستمع إليها مراراً وأحاول تقليدها نغمة بنغمة، حتى وإن كان عزفي في البداية بسيطاً ومليئاً بالأخطاء، لكن تلك المحاولات الأولى كانت بمثابة البوابة التي فتحت لي علاقة خاصة مع العود، ومن خلالها بدأت أفهم أسراره وأتعمق أكثر في عالم المقامات.

كيف اكتشفت أن العود هو "صوتك" الخاص، وليس آلة أخرى؟

- اكتشفت ذلك عندما أدركت أن العود قادر على التعبير عن مشاعري بدقة لا أجدها في أي آلة أخرى. كنت قد جربت العزف على الغيتار، لكنني شعرت دائماً بوجود شيء ناقص، خصوصاً حين حاولت تقليد مقامات وألحان عربية. وحين أمسكت العود لأول مرة شعرت كأنني وجدت صوتي الحقيقي؛ آلة تستجيب لكل إحساس، وتتيح لي مساحة واسعة بين الحزن والفرح، وبين الشجن والبهجة، عندها تيقنت أن العود ليس مجرد آلة أعزف عليها، بل هو الامتداد الطبيعي لصوتي الداخلي.

ما الذي ألهمك لدمج الألحان العربية التقليدية مع الأغاني العالمية الحديثة؟

- الإلهام جاء من رغبتي في بناء جسر بين عالمين أصالتي وثقافتي العربية من جهة، وما أسمعه من موسيقى عالمية حديثة من جهة أخرى، وخصوصاً أنني منذ صغري أحببت الأغاني الأجنبية وتأثرت بها كثيراً. كنت دائماً أشعر أن العود يمتلك طاقة كبيرة قادرة على تجاوز الحدود، وأنه ليس حبيس التراث فقط، بل يمكنه أن يحاور الإيقاعات الحديثة والإلكترونية بنفس القوة والجمال. لذلك وجدت أن دمج الألحان العربية التقليدية مع الأنماط العالمية هو طريقتي لإبراز هوية جديدة، تحافظ على الجذور وتفتح في الوقت نفسه أبوابًا جديدة أمام المستمعين حول العالم.

برأيك ما الذي يميز صوت العود بحيث يستطيع أن يتحدث مع كل الثقافات؟

- أرى أن سر العود يكمن في صدقه ودفئه. فهو آلة قادرة على نقل المشاعر الإنسانية بصوتها الخشبي العميق، دون حاجة إلى كلمات. حين يُعزف العود بإحساس، يصل صوته مباشرة إلى القلب، سواء كان المستمع عربياً أو من أي ثقافة أخرى. كما أن تنوع مقامات العود يتيح له التعبير عن الحزن والفرح والحنين والأمل، وهي مشاعر مشتركة بين البشر جميعاً. لذلك أؤمن أن العود يتحدث بلغة عالمية، لغة الإحساس التي يفهمها كل إنسان مهما اختلفت خلفيته الثقافية.

هل ترى نفسك أقرب إلى الحفاظ على التراث أم إلى التجديد والتجريب؟

- أرى نفسي في منطقة الوسط بين الاثنين. فالتراث هو الأساس الذي أنطلق منه، ولا يمكنني أن أبتعد عنه، لكن في الوقت نفسه أبحث دائما عن التجديد. لذلك تجد أن نصف الأغاني التي أقدمها تعتمد على إيقاعات عربية أصيلة، لكنني أدمجها بأصوات إلكترونية حديثة تعكس روحي وتجعل العمل أقرب إلى المستمع المعاصر. بالنسبة لي، الحفاظ على التراث لا يعني الاكتفاء بإعادته كما هو، بل منحه حياة جديدة تتيح له أن يتواصل مع جيل اليوم ومع مستمعين من ثقافات متعددة.

ما قصة الخوذة والعباءة السوداء؟ هل هي مجرد زي للحفاظ على هويتك الغامضة أم لها دلالة أعمق؟

- الخوذة بالنسبة لي ليست مجرد وسيلة لإخفاء الهوية، بل هي جزء أساسي من العلامة الفنية التي أبنيها. أردت أن أكون مختلفاً، وأن أقدم صورة تلفت الانتباه من اللحظة الأولى في عالم يمتلئ بالموسيقى والمحتوى السريع، قد يمر المتابع على مئات المقاطع في ثوانٍ، لذلك كان من المهم أن أخلق رمزاً بصرياً يميزني ويجعلني حاضراً في ذاكرة الجمهور. صحيح أنني أستطيع الاكتفاء بعرض يدي وأنا أعزف، لكن ذلك لا يترك الأثر نفسه. الخوذة أصبحت "براند" خاصاً بي تجمع بين الغموض والتفرد، وتجذب المشاهد منذ اللحظة الأولى، لتدفعه بعد ذلك إلى التركيز على ما هو الأهم الموسيقى وصوت العود. أريد أن يعرفني الناس من خلال موسيقاي قبل أي شيء آخر، وأن يكون ما يبقى في ذاكرتهم هو الألحان لا المظاهر.

لماذا اخترت أن تبقى مجهول الهوية؟

- اخترت أن أبقى مجهول الهوية لأنني أردت أن يكون التركيز أولاً على الموسيقى نفسها، لا على شخصي أو مظهري. شعرت أن الغموض يمنح المستمع مساحة أوسع للتأمل في الصوت واللحن دون أن يتأثر بالصورة النمطية عن العازف. كما أن إخفاء الهوية ساعدني على بناء هوية فنية مختلفة، وجعل من الخوذة رمزاً يميزني كعلامة بصرية.

هل تخشى أن يطغى الغموض على موسيقاك أكثر من حضورك الفني؟

- لا، لا أشعر بهذا الخوف، لأن الغموض بالنسبة لي ليس غاية في ذاته، بل وسيلة أنا أستخدمه كإطار بصري يلفت الانتباه في البداية لكن ما يرسخ في ذاكرة الناس هو الموسيقى نفسها كثير من متابعيني يذكرون مقطوعات وألحاناً قبل أن يذكروا مظهري، وهذا ما أريده تحديداً أن يكون حضوري الفني مبنياً على الصوت أولا الغموض يفتح الباب، لكن ما يجعل الجمهور يبقى هو صدق الموسيقى.

كيف يتعامل جمهورك مع فكرة أنك وجه غير معروف؟

- أجد أن الجمهور يتعامل مع هذا الجانب بفضول وحماس أكثر مما هو باستغراب. فالغموض جعل التجربة بالنسبة لهم مختلفة، وكثير منهم أخبروني أن إخفاء الهوية جعلهم يركزون على الموسيقى نفسها ويتفاعلون معها بعمق أكبر. بعضهم يرى في ذلك ميزة تميزني عن غيري، والبعض الآخر يعتبرها جزءًا من القصة التي تضيف بعداً خاصاً لرحلتي الفنية، وبالطبع هناك من يفضل أن يراني من دون خوذة، لكنني أرى أن هذا التوازن هو ما يثري التجربة.

ما أغرب سؤال أو تعليق تلقيته من متابعيك حول الزي الذي ترتديه؟

- من أغرب ما سمعته أن بعض المتابعين اعتقدوا أنني لست شخصاً حقيقياً، بل مجرد شخصية صنعت بالذكاء الاصطناعي. هذا النوع من التعليقات دائما يثير ابتسامتي، ويؤكد لي أن الغموض حول هويتي فتح مجالاً واسعاً لخيال الجمهور.

هل تتلقى رسائل أو قصص شخصية من معجبين أثرت فيك بشكل خاص؟

- نعم، تصلني الكثير من الرسائل التي تحمل قصصا شخصية مؤثرة. أحياناً يخبرني البعض كيف ساعدتهم موسيقاي على تخطي لحظات صعبة في حياتهم، أو كيف أصبحت جزءاً من ذكرياتهم اليومية. أتذكر رسالة من إحدى المتابعات في نيوزيلندا قالت إنها تعرفت على العود من خلال مقطوعي، وإن موسيقاي كانت سبباً في اكتشافها آلة وثقافة لم تسمع عنها من قبل. مثل هذه الرسائل تذكرني دائماً أن ما أقدمه ليس مجرد موسيقى، بل تجربة يمكن أن تلامس قلوب الناس وتفتح لهم أبواباً جديدة. وهي من أكثر الأمور التي تمنحني دافعاً للاستمرار وتؤكد لي أن رسالتي تصل فعلا إلى الجمهور.

ما أصعب مرحلة مررت بها خلال مسيرتك كعازف عود؟

- أصعب مرحلة كانت البدايات، حين اخترت أن أقدم العود بطريقة مختلفة عن المألوف. لم يكن من السهل أن أدمج العود مع أسلوب حديث، وكنت أتساءل دائماً: هل سيتقبل الناس هذا الاتجاه أم يرفضونه؟ وفي تلك الفترة لم أواجه فقط تحديات التفاعل وضعف الاهتمام أحياناً، بل بدأت أيضا من الصفر في تعلم برامج التسجيل والإنتاج الموسيقي، وكانت عملية معقدة وتحتاج إلى صبر طويل. إضافة إلى ذلك، مررت بلحظات فقدت فيها الشغف وشعرت بالإحباط. لكن مع مرور الوقت أدركت أن هذه التحديات كلها كانت جزءاً أساسياً من مسيرتي، وأنها هي التي صقلتني ومنحتني هوية فنية واضحة.

ما أكثر لحظة شعرت فيها أن موسيقاك وصلت بصدق إلى الناس؟

- من أعمق اللحظات التي لم أنسها أبداً كانت أثناء مشاركتي في معرض إكسبو اليابان بجناح البحرين، إذ تقدمت إليّ سيدة أمريكية بعينين يملؤهما التأثر، وأرتني على هاتفها أغنيتي ريزونانس - النسخة العربية على سبوتيفاي.

ما الدور الذي تلعبه التكنولوجيا "مؤثرات صوتية، تسجيل، توزيع" في موسيقاك؟

- أرى أن التكنولوجيا اليوم ليست مجرد وسيلة مساعدة، بل أصبحت جزءاً أساسياً من التجربة الموسيقية. أنا أستخدم المؤثرات الصوتية والتقنيات الحديثة لإبراز العود بشكل جديد، والأبعاد مختلفة عليه من دون أن يفقد هويته. كذلك تلعب التكنولوجيا دورًا مهماً في التسجيل والإنتاج، حيث تحيط لي صناعة صوت نظيف ومتنوع يصل إلى المستمع بجودة عالية. أما في التوزيع الموسيقي فهي تعطيني أفكاراً جديدة، وتفتح أمامي آفاقاً لم تكن ممكنة من قبل، إذ أستعين بضربات من الآلات الموسيقية المبرمجة مثل الناي والتشيللو، والكمان، والبيانو، إلى جانب بعض الإيقاعات، مما يمنح المقطوعات طابعاً متجدداً في كل مرة.

هل تفكر في التعاون مع فنانين عالميين؟

- ليس مجرد تفكير، بل بدأت بالفعل بخطوات وتعاون مع بعض الفنانين العالميين، ولكن أُفضل أن أبقي التفاصيل طي السر في الوقت الحالي، حتى يحين الوقت المناسب للكشف عنها. ما أستطيع قوله هو أن هذه التجارب تؤكد لي أن العود قادر على الدخول في حوارات موسيقية عالمية، وأن القادم سيكون أكبر وأوسع بإذن الله.

ما المشروع الذي تحلم بتنفيذه ولم يتحقق بعد؟

- أحلم أن تصل موسيقاي إلى العالمية وأن أحظى يوماً بجائزة "Grammy"، فأنا مؤمن بأن لا شيء مستحيل، خصوصاً بعدما عشت تجارب لم أتخيلها يوماً؛ إذ رأيت موسيقاي تُبث في إذاعات دولية وتصل إلى مستمعين من شتى أنحاء العالم، وهو أمر لم يكن ضمن أحلامي لكنه تحقق بفضل الله. هذه التجربة منحتني يقيناً أن القادم سيكون أعظم، وأن صوت العود قادر على أن يترك بصمته في أكبر المنصات الموسيقية العالمية، ويمنحني الفرصة لرفع اسم البحرين عالياً أمام العالم.