في عالمنا اليوم، تتخذ أنظمة الذكاء الاصطناعي قرارات تؤثر في حياة مليارات البشر، ومع ذلك لاتزال التساؤلات قائمة حول ما إذا كانت هذه التقنيات تخدم فعلاً التنوع البشري الذي تمسّه. وبينما تتسابق الحكومات والشركات الكبرى في تطوير الذكاء الاصطناعي، يبرز توجّهٌ مختلف يضع القيم الثقافية وكرامة الإنسان في قلب العملية. فقد تصدّت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «الإيسيسكو»، وهي هيئة شبيهة باليونسكو تمثل 53 دولة عضواً، لقيادة هذا التوجّه عبر مركز الاستشراف والذكاء الاصطناعي الذي أُنشئ في يناير 2020.
يمثّل المركز أول مؤسسة بحثية من نوعها في أفريقيا والعالم الإسلامي، ويعمل وفق ما يسميه قادته «منهجاً استشرافياً». فبدلاً من الاقتصار على التفاعل مع التطورات التقنية، يسعى إلى استباق الاتجاهات الناشئة وتحليل آثارها المحتملة. هذا المنهج يربط البحث الأكاديمي بصنع السياسات، حيث أنشأ المركز كراسي بحثية حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في جامعات بعُمان والمغرب، إلى جانب مبادرات لدعم مشاركة المرأة في هذا المجال. كما يجمع خبراء من تخصصات مختلفة لتقديم توصيات عملية تساعد الدول الأعضاء على خوض التحول الرقمي بوعي واستعداد.
وبناءً على هذا الأساس، حقق المركز إنجازاً بارزاً بإطلاق ميثاق الرياض للذكاء الاصطناعي في العالم الإسلامي خلال القمة العالمية للذكاء الاصطناعي بالرياض في سبتمبر 2024. وقد تجلّت أهمية هذا الميثاق حين أقرّت 53 دولة عضواً توجيهاته بالإجماع تقريباً، في خطوة نادرة في مجال سياسات التكنولوجيا الدولية.
ما يميّز هذا الميثاق هو دمجه للقيم الإسلامية في تطوير الذكاء الاصطناعي. فبدلاً من النظر إلى التكنولوجيا كأداة محايدة ثقافياً، يعالج الميثاق قضايا جوهرية مثل صون كرامة الإنسان وحماية الخصوصية الفردية مع الاستفادة من مكاسب التقنية. ويعكس ذلك إدراكاً بأن الأطر الدولية الحالية قد لا تفي بالاحتياجات الثقافية والأخلاقية للعالم الإسلامي. لذا يركز الميثاق على مبادئ كالصدق والأصالة ودعم المجتمع كركائز لتطوير الذكاء الاصطناعي.
ويتجاوز الميثاق الطرح النظري إلى إجراءات عملية عبر مبادرات عدة، منها مقترحات لتأسيس لجان رقابة على الذكاء الاصطناعي لمتابعة التقدم وتقديم المشورة الاستراتيجية لصناع القرار. كما تنظم الإيسيسكو مؤتمرات دولية حول الذكاء الاصطناعي وحقوق الإنسان، وأطلقت برامج تدريبية بالشراكة مع الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي «سدايا» لسد فجوات المهارات في التقنيات الحديثة. هذه المبادرات المتكاملة تعكس مقاربة متوازنة تجمع بين الابتكار والاعتبارات الأخلاقية، بما يفتح مسارات لاعتماد الذكاء الاصطناعي مع احترام القيم الثقافية في المجتمعات الأعضاء.
وعلى الصعيد العالمي، يقدّم هذا العمل نموذجاً يُظهر كيف يمكن للقيم الثقافية أن تعزز التقدم التكنولوجي بدلاً من أن تحدّ منه. إذ تمنح مقاربة الإيسيسكو مثالاً يمكن لمناطق أخرى الاستفادة منه للحفاظ على خصوصياتها مع مواكبة التحول الرقمي، كما تُثري النقاشات الدولية حول تطوير ذكاء اصطناعي مسؤول. ومع استمرار الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل حياة البشر، قد تكون مثل هذه المقاربات ضرورية لضمان أن تخدم التكنولوجيا رفاه الإنسانية جمعاء مع احترام ركائز الثقافات المتنوعة في العالم.