من أصعب ما يمكن أن يمرّ به قلب أي مربٍ أو ولي أمر أن يرى طفلاً يدخل إلى مدرسته بخطوات مترددة، يخاف من كلمة جارحة أكثر مما يخاف من الامتحان. إن التنمر في مدارسنا لم يعد مجرد مشاكسة عابرة بين الزملاء، بل صار جرحاً متكرراً يتسلل إلى قلوب أبنائنا، يترك ندوباً خفية لا تُرى بالعين، لكنها تعيش في الذاكرة، وتؤثر في الشخصية، وقد ترسم مستقبلاً مختلفاً تماماً لذلك الطفل.
الكلمة الساخرة ليست مجرد حروف، بل قد تكون سكيناً تجرح الروح. كم من طالب فقد شجاعته في المشاركة في الصف، بعد أن تعرّض لسخرية بسبب مظهره أو نطقه! وكم من طفل حمل لقباً مؤذياً أطلقه زملاؤه عليه، فصار يتردّد في الاندماج مع الآخرين! هذه المواقف الصغيرة في ظاهرها، كبيرة في أثرها، قد تجعل طفلاً يتقوقع داخل نفسه، أو يتراجع مستواه الدراسي، أو يفقد ثقته بالآخرين.
قد نتساءل: ما الذي يدفع طفلاً صغيراً لمثل هذا السلوك؟ الحقيقة أن المتنمّر نفسه ضحية قبل أن يكون جانياً.
- قد ينشأ في بيت يغيب فيه الحوار ويكثر فيه الصراخ أو الإهمال.- قد يعيش شعور النقص، فيحاول تعويض ضعفه بالسيطرة على الآخرين.- أحياناً يقلّد ما يراه في محيطه، سواء في الأسرة أو في وسائل الإعلام والألعاب الإلكترونية.
وبالمقابل، الضحية ليس ضعيفاً بالضرورة، لكنه طفل يبحث عن الأمان، عن كلمة طيبة تقول له: «أنت مهم، أنت لست وحدك».
كم من طفل كان يفرح بالمدرسة، ثم انطفأ شغفه فجأة لأنه تعرّض لسخرية من طريقة كلامه أو ضحكته!
وكم من آخر كان يؤذي زملاءه باستمرار، حتى إذا جلس معه أحد المربين بحبّ وصبر، اكتشف أن وراء قسوته قلباً مثقلاً بالخذلان، وأن تنمّره لم يكن إلا صرخة استغاثة صامتة.
المعلم والمربي ليسا مجرد ناقلين للمعرفة، بل هما قدوة وصوت للرحمة. دورهما أن يصغيا للطرفين بلا تحيز، أن يفتحا أبواب الحوار بدلاً من أبواب العقاب فقط. عليهما أن يعلّما المتنمّر أن الاحترام هو القوة الحقيقية، وأن يمنحا الطرف الآخر الثقة ليقف من جديد.
التربية الحقيقية لا تكمن في شرح الدروس فقط، بل في صناعة بيئة يشعر فيها الطالب أن المدرسة بيت آمن، يسمع صوته ويحفظ كرامته.
- في البيت: يجب أن نعلّم أبناءنا منذ الصغر أن الكلمة الطيبة مسؤولية، وأن احترام الآخرين قوة لا ضعف. الحوار داخل الأسرة هو خط الدفاع الأول ضد التنمر.- في المدرسة: لا تكفي اللافتات التي تقول "لا للتنمر”. يجب أن تكون هناك برامج عملية، أنشطة تعاونية، وحوارات مفتوحة تُشعر الطلاب أن الاختلاف نعمة لا عيب.- في المجتمع: لا بد أن نوقف بثّ النماذج السلبية في الإعلام وألعاب العنف، ونرفع بدائل تُعزّز الرحمة والاحترام.
التنمر قد يُنتج جيلاً يعيش بعُقد نفسية: ضحايا يكبرون بخوف، أو متنمرون يكبرون بعنف. وفي الحالتين يخسر المجتمع. بينما إذا واجهناه بوعي، نصنع جيلًا متوازناً، يعرف أن الكلمة الطيبة أقوى من أي سلاح، وأن الإنسانية قبل التفوق، والرحمة قبل الدرجات.
مدارسنا يجب أن تكون بيتاً ثانياً، جداراً يحمي، وسماءً تظلّل، وأرضاً خصبة تنبت فيها أحلام الأطفال بلا خوف. التنمر ليس قدَراً محتوماً، بل سلوكاً يمكن تغييره إذا اجتمعنا كأسرة ومدرسة ومجتمع على مبدأ واحد: أن نزرع في أبنائنا يقيناً أن الكلمة الطيبة ليست مجرد مجاملة، بل حياة كاملة قد تعيد لإنسان آخر ثقته بنفسه، وتمنحه القوة ليكمل طريقه.
* مستشار تربويمنال كويتان