هل حدث أن وجدتَ نفسك تفكّر طويلاً في كلمةٍ قالها أحدهم، كلمةٍ عادية في ظاهرها، لكنها ظلّت تتردّد في داخلك كصدى لا يخفت؟ تبدأ بتحليلها وتفكيكها، تتساءل عمّا قصده قائلها، ثم تُعيد المشهد مراراً حتى تنسج حولها قصةً كاملة من الظنون والتأويلات. ومع مرور الوقت، يتسلّل إليك الضيق، وتفقد تركيزك فيما حولك؟
أو لعلّك إن ارتكبتَ خطأً صغيراً دون قصد، أو صدر منك سلوكٌ لم تُحسن تقديره تجاه صديقٍ أو قريب، فهل تعود إليه ليلاً ونهاراً، تُعيد اللقطة نفسها في ذهنك، وتراجع كلماتك وردود فعلك، تحاكم نفسك بلا رحمة، وتغرق في شعورٍ بالذنب وكأنك تعيش الموقف من جديد؟
إن كنتَ كذلك، فربما تعاني مما يُعرف في علم النفس بـالاجترار الذهني؛ حالةٌ يعلق فيها الإنسان داخل رأسه أكثر مما يعيش في واقعه، حيث يمتزج التفكير بالمعاناة، وتتحوّل الذاكرة إلى أسطوانةٍ مشروخةٍ تكرّر الوهم أكثر مما تعكس الحقيقة.
يُعدّ الاجترار الذهني Rumination من أكثر الأنماط الفكرية المرهقة للنفس البشرية، إذ يتجلى في الميل إلى إعادة التفكير في الأحداث السلبية أو الأخطاء الماضية بصورة متكرّرة ومستمرة دون الوصول إلى حلول أو قرارات عملية. فالشخص الذي يتعرض لموقف محرج أو فشل في علاقة أو عمل، قد يجد نفسه أسير حلقة مغلقة من الأفكار، يعيد صياغة الحدث ويضخّمه، ويحمّل ذاته اللوم مراراً، فيتعمّق لديه الشعور بالعجز والحزن. ولقد أثبتت الدراسات أن الاجترار الذهني أكثر شيوعاً لدى الإناث منه لدى الذكور، وتعود أسباب ذلك إلى عوامل عديدة منها: العوامل البيولوجية المرتبطة بتركيب الدماغ، والهرمونات التي تجعل العواطف أكثر عمقًا واستمرارية، والعوامل الاجتماعية التي تربي الفتيات على الحساسية المفرطة تجاه العلاقات والآخرين، إضافةً إلى الضغوط اليومية والتوقعات المرتفعة من الأدوار الأسرية والمهنية. كما تلعب الشخصية القلقة أو المثالية دوراً في تغذية الاجترار، إذ تسعى المرأة إلى الفهم المفرط لكل تفصيل أو بحث دائم عن الكمال، فلا تهدأ إلا حين تجد تفسيراً يشبع قلقها، وهو ما لا يتحقق غالباً. ويخطئ الكثيرون حين يخلطون بين الاجترار الذهني والتفكير التأملي الصحي. فالتفكير التأملي هو عملية عقلية هادئة يسعى الفرد من خلالها إلى فهم ذاته واستخلاص الدروس من تجاربه، وهو تفكير موجَّه نحو النمو والتصالح مع الماضي. أما الاجترار الذهني فهو أشبه بدوران متكرر في دائرة مغلقة من الأفكار السلبية، دون الوصول إلى نتيجة، فيغدو أسيراً للّوم والقلق والندم. ولكسر دائرة الاجترار، لا بد من وعي الفرد بوجوده أولاً. فالتوقف عند لحظة الإدراك أن "ما أفكر فيه الآن لا يفيدني” هو الخطوة الأولى نحو التحرر. تساعد تقنيات مثل الوعي الحاضر (Mindfulness) على تدريب الذهن على ملاحظة الأفكار دون الانغماس فيها، كما أن ممارسة الرياضة، وتغيير البيئة، والانشغال بأنشطة ممتعة، تقلل من استغراق الذهن في الماضي.
إن التحرر من الاجترار ليس نسياناً للماضي، بل تصالحاً معه، بحيث لا يبقى عقل الفرد مسرحاً دائماً للألم، بل مساحة للنمو والصفاء والاختيار الواعي لما يستحق التفكير فعلاً.
* أستاذة جامعية في علم النفس