في صباح يوم هادئ، كنتُ أجلس على مقعدٍ خشبي أمام مدرستي القديمة، أراقب الطلبة يدخلون ويخرجون حاملين الورود وعلب الهدايا الملوّنة، والضحكات تتعالى في أجواءٍ يختلط فيها عبق الطباشير برائحة الامتنان الموسمي، كانت مناسبة يوم المعلم تعود كعادتها كل عام، لكن شيئاً في داخلي ظلّ يتساءل بصمتٍ: هل هذا اليوم احتفاءٌ حقيقي بالمعلم، أم هو طقسٌ اجتماعي نمارس فيه الودّ المؤقت ثم نمضي؟

تأملت المشهد طويلاً، وأنا أسترجع سنواتٍ من العطاء الصامت، حين كنت أدخل القاعة قبل الجميع، وأغادرها آخرهم، بين الجهد والتعب، كنتُ أزرع في عيون الطلبة الحلم، وفي قلوبهم القدرة على النهوض من الفشل، دون أن أنتظر كلمة شكرٍ أو هدية، كنت أؤمن أن التعليم ليس مهنةً، بل رسالة تتجاوز الجدران، لكن مع مرور السنوات، صرتُ أرى كيف تحوّل هذا اليوم من لحظة تقديرٍ صادقة إلى مناسبةٍ شكلية تُقاس فيها المحبة بعدد الورود، لا بعمق الذاكرة.

تقول تقارير «اليونسكو» إن 20% من المعلمين حول العالم يشعرون بعدم التقدير، فيما لا تتجاوز نسبة الرضا المهني في العالم العربي 40%. هذه الأرقام ليست أرقاماً جافة، بل صدى لشعورٍ متراكم لدى كل معلمٍ، حين يُقدّر شكلاً ويُنسى مضموناً، فالمعلم، أكثر من أي مهنة أخرى، يعيش على القيمة المعنوية، على نظرة الاحترام، على كلمة «كنتَ سبباً في نجاحي»، تلك الكلمة وحدها كفيلة بأن تُحيي فيه شغف الأعوام الماضية.

ولعل أكثر اللحظات التي لا تغادر وجداني، تلك التي جمعتني يوماً ببعض طلبتي بعد سنواتٍ طويلة، كانوا رجالاً ناضجين يشغلون مناصب عليا، كنتُ أقف في حفلٍ عام حين تقدّم اثنان منهم نحوي، وابتسما بتلك النظرة التي لا تُخطئها ذاكرة القلب، ثم رفعا قبعتَيهما بتحيةٍ عسكريةٍ مؤثرة، لم أتمالك نفسي، سالت دمعةٌ حارةٌ على وجهي، شعرت في تلك اللحظة أن الزمن رغم قسوته لم ينسَني، وأن ما زرعته فيهم من حبٍّ للحياة واحترامٍ للإنسان قد نما على مهلٍ في صمتٍ جميل، كانت تلك الوقفة تختصر مسيرتي كلها، وتؤكد لي أن المعلم ليس من يلقّن الدروس، بل من يترك في الروح أثراً لا يُمحى، يومها شعرت أنني لم أكن فقط معلّمة، بل أمّاً تربي قبل أن تعلّم، تحتضن قبل أن توبّخ، وتبني إنساناً قبل أن تسلّمه شهادة.

وحين أتأمل اليوم معنى «يوم المعلم»، أراه مرآةً للمجتمع بأكمله: هل نحن نكرّم الفكرة أم المناسبة؟ إن أجمل ما يمكن أن نمنحه لمعلمٍ ليس وردة ولا شهادة، بل أن نحيا ما علّمنا إياه، أن نحمل قيمه في سلوكنا لا في كلماتنا، فالهدايا تزول، أما الأثر فيبقى.

وما أجمل أن تمضي السنون، وبعد أعوامٍ طوال، يجمعنا القدر في مكانٍ واحد، فأرى في أعين من كانوا صغاراً بالأمس نظرة الامتنان الصادق، وأسمع أحدهم يقول لي بصوتٍ مرتجف: كنتِ أنتِ المعلمة التي علمتنا الحياة قبل الحروف، وذكراك لا تغيب عن ذاكرتنا، عندها فقط، أدرك أن الزمن لا يشيخ ما دام يحترم المعلم وعطاءه، وأن أجمل هديةٍ يمكن أن يتلقاها معلمٌ هي لحظة صدقٍ كهذه، تُعيد إلى القلب طمأنينة الرسالة التي لا تُشترى، ولا يطفئها النسيان.

* إعلامية وباحثة أكاديمية