في عالمٍ تتسارع فيه خطى الذكاء الاصطناعي نحو إعادة تشكيل مفاهيم الأمن المالي العالمي، تأتي مبادرة مملكة البحرين بإطلاق منصة «محقق الذكاء الاصطناعي» من شركة «أمان» لتضع بصمتها الريادية في قلب معركة مكافحة الجرائم المالية العابرة للحدود، هذا المشروع، المدعوم من شركة «ثيميس» البريطانية، لا يمثل مجرد إضافة تقنية، بل هو تحوّل استراتيجي في بنية الامتثال المالي، يعبّر عن وعيٍ وطني متقدم بدور التكنولوجيا في حماية الاقتصاد الوطني من مخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

فالبحرين، التي صنّفتها تقارير صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من بين الدول السباقة في تطوير الأطر التنظيمية للقطاع المالي، تنقل اليوم تجربتها إلى مستوى أكثر ذكاءً، حيث يتقاطع الذكاء الاصطناعي التوليدي مع التحليل السلوكي المتعمق لصناعة «محقق رقمي» قادر على قراءة أنماط الجريمة وتحليلها آنياً، ما كان يحتاج سابقاً إلى أيام من البحث والتحقق بات اليوم يتم خلال دقائق عبر خوارزميات مدرّبة على بيانات حقيقية وتاريخية لأكثر من 70 دولة، مما يرفع كفاءة رصد المخاطر بنسبة تتجاوز 85% بحسب تقارير مجموعة «ثيميس».

إن ما يميز التجربة البحرينية هو انتقالها من مجرد الامتثال إلى مرحلة «الاستباقية الذكية»؛ أي القدرة على التنبؤ بالمخاطر قبل وقوعها، وهي خطوة تضع المملكة في مصافّ الدول الرائدة مثل سنغافورة وسويسرا في تطبيقات الذكاء الاصطناعي للحوكمة المالية، ففي الوقت الذي تشير فيه إحصاءات الأمم المتحدة إلى أن حجم عمليات غسل الأموال عالمياً يتجاوز 2 تريليون دولار سنوياً، فإن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في هذا المجال خفّض نسب الجرائم المالية في بعض الدول الأوروبية بنحو 40% خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة.

وتكمن القيمة المضافة في أن المنصة البحرينية لا تعتمد على السحابة، ما يمنحها استقلالاً سيادياً في معالجة البيانات، ويعزز الثقة في منظومتها الأمنية الرقمية، متوافقاً مع توجهات الاتحاد الأوروبي ومجموعة العمل المالي «FATF» في صون البيانات الوطنية، كما أن دعم المنصة بمنحة حكومية بريطانية يفتح أفقاً للتكامل الدولي، ويكرّس البحرين مركزاً إقليمياً لتقنيات الامتثال الذكي.

من منظور تحليلي، فإن «محقق الذكاء الاصطناعي» ليس مجرد أداة، بل نموذج لتفكيرٍ جديد في كيفية إدارة المخاطر وفق فلسفة «الحوكمة الذكية».* إعلامية وباحثة أكاديمية