خلال بحثي لكتابة روايتي الجديدة، توقفت طويلاً عند عددٍ من الشخصيات التي سكنت الذاكرة البحرية للبحرين والخليج، وجدتُ في كل واحدةٍ منها ملامح من الإنسان البحريني القديم، ذاك الذي صارع الموج بحثًا عن اللؤلؤ، وأقام حضارة من الملح والصبر، من بين تلك السير التي لم تفارق ذهني، برز اسمٌ فريد في ملحمته، وهو السردال سالم بن جمعة الشروقي، الرجل الذي فقد بصره، غير أنّ الله منحه بصيرةً نافذة ترى البحر وتفكّ شفراته وتفهم لغته كما لو كانت تنطق بها منذ الأزل.

ولد سالم في الحمرية عام 1835، في زمنٍ كانت فيه المراكب الشراعية تصنع القدر، والبحر هو المدرسة الأولى التي يتعلّم فيها الإنسان معنى الخطر، ومعنى التوكل أيضاً، نشأ في بيئةٍ لا تعرف الراحة، فكلّ ما فيها مشدود إلى الرزق المعلّق على الموج، ومع أن فقدان البصر كان يمكن أن يكون نهاية الحلم لأي رجل، إلا أن سالم تحوّل إلى أحد أعظم نواخذة الخليج العربي، فقاد السفن وأشرف على رحلات الغوص، وأصبح اسمه مرادفاً للخبرة والدهشة.

والسردال هو لقبٌ بحري قديم يُطلق على قائد أسطول الغوص أو المسؤول الأعلى عن تنظيم رحلات استخراج اللؤلؤ في الخليج العربي، وهو بمثابة القائد العام للبحّارة والنواخذة، يتولّى السردال مهمة تحديد الدشة، أي موعد بدء موسم الغوص، والقفال، أي نهاية الرحلة وعودة السفن، ويُشرف على توزيع المغاصات بين النواخذة، ويراقب التزامهم بالقوانين البحرية والعُرف السائد.

لقد كان السردال سالم يعرف البحر كما يعرف راحة يديه، امتلك عدداً من السفن التي تُبحر بأمره، يقودها بنفسه ويحدّد توقيت الدشة والقفال، ويقرأ الرياح من رائحة الملح، ويتنبّه للعواصف قبل أن تهبّ، وكان البحارة يؤمنون أن سماع صوته يعني النجاة، وأن لمس يده يمنحهم طمأنينةً لا يهبها البحر لأحد.

تروى عنه حكاية هير الضايع التي صارت جزءاً من الأسطورة، في إحدى رحلاته، صادف سفينة صغيرة تائهة لبحارةٍ من الهولة، فسألهم عن النجم الذي ساروا عليه وعدد الأيام التي قضوها في البحر، ومن إجاباتهم استنتج موقعاً جديداً للهيرات، فأمر ابنه النوخذة سعد بالإبحار منتصف الليل دون أضواء أو ضجيج، وعند الفجر وصلوا إلى المغاص الموعود، حيث وجدوا اللؤلؤ متلألئاً في قاع البحر كما لو كان ينتظرهم وحدهم، ولم تكن تلك مجرد مصادفة، وإنما ثمرة علمٍ فطريّ وحسٍّ رباني علّمه البحر لمن صدق معه.

ويُحكى أنه كان نائماً في إحدى الرحلات، فاستيقظ فجأة وهو يصرخ: «أكسر الدفة، أمامنا جبل!» وما هي إلا لحظات حتى اصطدمت مؤخرة السفينة بالفشت، وحين سأله البحارة كيف أدرك الخطر، قال إنه سمع صوت سمكة السلس التي لا تخرج من الماء إلا حين تقترب السفينة من مكانٍ ضحل، فسمع ما لم يسمعه أحد، وأنقذ السفينة من الغرق، كانت تلك لحظة تُثبت أن فقدان البصر هو عبور نحو حاسةٍ أخرى تستشعر الكون بصفائه وغموضه معاً.

يُحكى أن السردال سالم بن جمعة الشروقي أراد بحّارته يوماً أن يختبروه، فجلبوا معهم طينة بحرية من منطقة «عين ريا» وأخفوها ليقنعوه أنهم في مغاص مختلف عن «هير اشتية». وعندما أمرهم السردال بالتوقف لجمع المحار، حاولوا إقناعه بأن المكان ليس هو المقصود، فطلب حبلاً لقياس العمق ثم أمر أحدهم بجلب طينة من القاع. قدّموا له الطينة التي جاؤوا بها، مبلولة لتبدو وكأنها من البحر.

أخذها السردال الضرير وشمّها لحظة، ثم قال بصوته الجهوري: «الطينة طينة ريا والهير هير اشتية». انكشفت الخدعة، وازداد احترام رجاله له. ومنذ ذلك اليوم صار المثل يُقال للدلالة على البصيرة التي لا تُخدع، والمعرفة التي تتجاوز حواسّ الإنسان.

رحل السردال سالم بن جمعة الشروقي عام 1930، بعد حياةٍ ملؤها البحر والمغامرة، وترك وراءه سيرةً تضيء جوانب من تاريخ البحرين قبل النفط، حين كانت السفن مدارس، والنواخذة معلمين، والبحر كتاباً مفتوحاً لمن يعرف كيف يقرؤه، في سيرته يتجلّى المعنى الأعمق للعبارة التي تتردد في أذهان أبناء البحر: من أحبّ البحر، تعلّم الصبر، ومن صبر، أبصر الحقيقة.

هكذا علّمنا السردال الأعمى أنّ البصيرة أوسع من الأفق، وأن الإنسان البحريني مهما عصفت به العواصف، يبقى قادراً على أن يُبحر نحو الضوء، ولو كان الموج في عينيه ظلاماً دائماً.