مع كل دورة انتخابية، تجدد البحرين ملامح المسيرة الديمقراطية بوعي أعمق وأدوات أكثر نضجاً، فقد تابعت ومن خلال طبيعة عملي سواء الإعلامي أو في مجلس النواب، الجهود التي يبذلها معهد البحرين للتنمية السياسية، خصوصاً في برنامج «درّب»، والذي ينفذه للمرة الثالثة على التوالي، حيث يمثل الوجه الأبرز لهذا التطور، بوصفه منصة وطنية رائدة لإعداد قيادات تمتلك المعرفة والقدرة والمسؤولية في ممارسة العمل الانتخابي.
ولا شك في أن البرنامج، ومنذ انطلاق نسخته الأولى عام 2018، استطاع أن يثبت أنه مشروع وطني متكامل، يترجم الرؤية الملكية السامية في تعزيز المشاركة السياسية الواعية وترسيخ قيم المواطنة المسؤولة، وفق مبادئ ميثاق العمل الوطني ودستور المملكة والقوانين والتشريعات الوطنية، فهو لا يكتفي بتأهيل المترشحين ومديري الحملات الانتخابية فقط، بل يسهم أيضاً في بناء ثقافة سياسية شاملة تطال الإعلاميين والمراقبين والشباب وعموم المواطنين، لتتحول العملية الانتخابية إلى مشاركة جماعية تفاعلية تعكس نضج المجتمع وما يتمتع به من وعي السياسي.
النسخة الثالثة من البرنامج، والتي تم الإعلان عن انطلاقتها مؤخراً، تأتي بروح جديدة لتواكب التحولات التكنولوجية الكبرى التي يشهدها العالم، وتترجم في الوقت ذاته التوجيهات الملكية السامية بضرورة توظيف الذكاء الاصطناعي في تطوير أدوات العمل السياسي والإداري، فالبرنامج في نسخته الجديدة لم يكتفِ بالمفاهيم التقليدية لإدارة الحملات الانتخابية، بل أدخل موضوعات نوعية مثل الأمن السيبراني، وتحليل البيانات..، وهو ما يجعل منه نموذجاً متقدماً في الجمع بين المعرفة السياسية والابتكار التكنولوجي.
وإذا كانت الأرقام تتحدث عن نفسها؛ فإن ما حققه البرنامج في نسخه السابقة يعكس أثره الفعلي في المشهد الانتخابي البحريني، بعد أن أسهم في فوز عدد معتبر من المشاركين بمقاعد نيابية وبلدية، الأمر الذي يبرهن على نجاحه في تحويل المعرفة النظرية إلى ممارسات واقعية، وصناعة كوادر وطنية قادرة على المشاركة الفاعلة في الحياة العامة.
أما في جوهر التجربة، فإن القيمة الحقيقية لبرنامج «درّب» تكمن في قدرته على إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والعملية الانتخابية، من خلال رفع مستوى الوعي، وتزويد المترشحين بمهارات التواصل وإدارة الحملات والالتزام بالقيم الوطنية والشفافية، فهو برنامج يعيد رسم المشهد الانتخابي من الداخل، ليغدو الفهم أساساً للمشاركة والمعرفة قاعدة للمسؤولية.
وفي زمن تتسارع فيه التكنولوجيا وتتبدل فيه أدوات التأثير؛ يظل «درّب» شاهداً على أن البحرين اختارت طريقاً واضحاً في التمكين بالمعرفة، وبناء الإنسان، وترسيخ الممارسة الديمقراطية بوصفها ثقافة متجذرة وليست حدثاً موسمياً.
فما بين وعي يصنع في القاعات وتجارب تترجم في الميدان، يواصل «درّب» دوره في إعداد جيل جديد من القادة، يؤمن بأن السياسة ليست تنافساً على مقعد، بل مسؤولية تجاه وطن يمضي بثقة على درب الإصلاح والبناء.