الخطاب السائد في بعض مواقع العمل يتحدث عن الإنتاجية الناتجة عن الإيجابية التي تصدر من القوى البشرية. طبعاً هذه كشعارات رنانة، في حين تغيب عن الأعين ممارسات دقيقة ومتكررة تنخر في أعماق الموظف دون ضجيج.
هنا أتحدث عن ضغوطات نفسية يومية، لا تُرى، لكنها تنعكس على الروح، فتنهكها، وتبدّد شغفها، وتحوّل بيئة العمل من مساحة نموّ إلى دائرة مغلقة من الاستنزاف.
تظهر هذه الضغوط في صورٍ متباينة، على رأسها التهميش المتعمد، والتقليل من الجهود، والانتقاد اللاذع بلا أساس، أو الشعور الدائم بعدم التقدير. وغالباً ما تمارسها إدارات تستند إلى منطق السيطرة لا القيادة، فتنشر الخوف بدلاً من الأمان، وتُحبط الطموح بدلاً من صقله.
هذا النوع من السلوك التنظيمي لا يوقف عجلة التطوير فحسب، بل يزرع اللامبالاة في النفوس، ويحوّل الفرق إلى مجموعات منعزلة تسعى للبقاء أكثر مما تسعى للإنجاز.
تكمن خطورة هذه الظواهر في صمتها؛ إذ لا تُقاس بالأرقام أو التقارير، لكنها واضحة في العيون المنهكة، في تراجع المبادرات، وفي البرود الذي يغلف الاجتماعات.
الموظف المرهق لا يطمح، بل يتفادى الخسارة. يبتعد عن المواجهة، ويتحول مع الوقت إلى نسخة صامتة من ذاته، حاضر جسدياً، وغائب ذهنياً.
القيادة الحقيقية لا تنبع من السلطة، بل من الفهم العميق لقدرات الفريق، ومن بناء بيئة تُمكّن لا تُقيّد. المدير الملهم لا يرفع صوته، بل يرفع سقف الثقة. أما أولئك الذين يثبتون وجودهم بإضعاف من حولهم، فهم أشبه بعقبات خفية تقتل الإبداع، وتُغلق أبواب التغيير من الداخل.
ما يحدث من إنهاك نفسي ليس عَرَضاً عابراً، بل نتيجة مباشرة لثقافة تنظيمية تعاني من اختلالات عميقة. ثقافة تستبدل الثقة بالرقابة، والتحفيز بالتشكيك، والأمان بالخوف. وعندما يشعر الموظف بأن كل يوم هو معركة للبقاء، فإن الانتماء يذبل، والتعاون يتآكل، وتتحوّل فرق العمل إلى جزر متباعدة، يحكمها التنافس السلبي لا الرغبة المشتركة في التقدّم.
لذا فإن إصلاح بيئات العمل يبدأ من الأعلى، من مراجعة الفلسفة الإدارية التي تحكم المؤسسة. إذ لا بد من إعادة الاعتبار للعنصر البشري، ليس كأداة تنفيذ، بل كمحور للإبداع والإنتاج. وهنا لا يكفي بناء هياكل تنظيمية، إن لم يكن هناك استثمار في الإنسان نفسه.
اليوم هناك حاجة ماسة إلى نهج يُعيد التوازن، ويحوّل مكان العمل إلى فضاء يُلهم الموظف لا يُرهقه، يُقدّر جهوده لا يُراقبه بظن. فالإبداع لا يُنتزع تحت الضغط، بل يُزهر في بيئة يجد فيها الموظف التقدير، والطمأنينة، والإيمان بقدراته.
ولنتذكر، المؤسسة التي تحتضن موظفيها تصنع النجاح من الداخل، لأنها تؤمن بأن الإنسان المنتج هو من يعمل بقلبه لا فقط بيده، ويمنح عمله طاقةً نابعة من شعور بالانتماء، لا من واجب ثقيل.