قبل أعوام، مثلت زيارتي الأولى إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة تجربة روحانية خالصة، غمرها الشعور بالسكينة، لكنها كانت محاطة بالتحديات التي يواجهها الزائر، مثل الازدحام وطول الإجراءات وصعوبة التنقل.
اليوم، وفي ظل ما تشهده المملكة من تحديث، أستطيع أن أقول وبكل ثقة إن المشهد قد تغير تماماً، حيث لم يعد يقتصر دور المملكة على خدمة ضيوف الرحمن في إطارها الديني، بل تجاوزت ذلك إلى بناء تجربة متكاملة تمزج بين الإيمان والمعرفة وبين العبادة والاكتشاف.
فمنذ اللحظات الأولى تشعر أنك أمام نموذج جديد في الإدارة والتقنية، حيث ساهمت منصة «نسك» في تبسيط الإجراءات بشكل ملفت؛ وهو ما لاحظه كثيرون غيري، حيث تشير الأرقام إلى أن المنصة سجلت أكثر من 40 مليون مستخدم في 190 دولة خلال عام واحد فقط، وأكثر من 130 خدمة رقمية تتيحها لتسهيل الرحلة الإيمانية من بدايتها وحتى العودة إلى الديار.
والحقيقة أن أكثر ما لفت انتباهي هو أن هذه النقلة لم تكن معزولة عن الميدان؛ فمبادرة «طريق مكة» غيرت مفهوم الوصول إلى المملكة كلياً، فالإجراءات أصبحت تنجز قبل السفر من بلد المغادرة، تأشيرات إلكترونية، وتسجيل مسبق للبيانات الحيوية، وحتى الأمتعة تنقل مباشرة إلى السكن، وعندما وصلت مطار جدة هذا العام، لم أحتج إلا بضع دقائق لأكون على متن الحافلة المتجهة إلى الفندق.
إنها رحلة بلا تعقيد، لكنها ليست مجرد تسهيل إداري؛ بل تعبيراً عن فلسفة سعودية جديدة ترى في خدمة ضيوف الرحمن مشروعاً حضارياً بحد ذاته، فلسفة تستند إلى رؤية 2030 التي جعلت من خدمة الحاج والمعتمر شرفاً ومسؤولية وطنية.
وفي كل زاوية من مكة والمدينة، يلمس الزائر هذا التحول، فلم تعد الزيارة تقتصر على أداء المناسك، بل أصبحت فرصة لاكتشاف التاريخ العميق الذي تختزنه هذه الأرض المباركة.
في مكة، تتاح للزائر جولات تفاعلية لاستذكار أهم الأحداث التاريخية، أما في المدينة المنورة، فتمتزج زيارة الروضة الشريفة بمتعة التجول في متاحف السيرة النبوية التي تعرض تفاصيل حياة النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوب بصري حديث يجمع بين الفن والحقائق التاريخية.
إلى جانب ذلك؛ هناك رحلات مشي على خطى الأنبياء، وزيارات للآثار الإسلامية في بدر وأحد وقباء، مصممة بعناية لتربط الحاضر بالماضي، وتفتح أمام الزائر نافذة على عمق المكان وقدسيته، فمن يعيش التجربة سيدرك أن المملكة تسير بثقة نحو مستقبل يجعل من مكة المكرمة والمدينة المنورة، ليس فقط وجهتين للحج والعمرة، بل أيضاً للمعرفة والإلهام والإعجاب.
إنها السعودية الجديدة، التي جمعت بين قداسة المكان وحداثة الزمان، لتمنح ضيوف الرحمن تجربة لا تنسى، تليق بقدسية المكان، وعظمة الرسالة وكرم الضيافة.