لم تعد خدمات الإقراض سلعة مالية تقليدية؛ بل أصبحت ميداناً رئيسياً للتنافس على كسب العملاء والاحتفاظ بهم. فالمقترضون في العصر الحديث، الذين اعتادوا على تجارب رقمية متقدمة في قطاعات أخرى، باتوا يتوقعون قرارات إقراض سريعة، عادلة، وشخصية في الوقت ذاته.

لم يعد مقبولاً اليوم الانتظار لمدة 24-48 ساعة لمراجعة الطلبات يدوياً. إذ تقوم شركات التقنية المالية (Fintech)، برفع سقف التوقعات عبر تقديم الموافقات في غضون دقائق، مما يضع معياراً جديداً لا يمكن للمؤسسات التقليدية تجاهله.

العامل الحقيقي الذي يغيّر موازين قطاع الإقراض اليوم لا يقتصر على دخول لاعبين جدد، بل يتمثل في التكنولوجيا التي يعتمدونها. حيث تستخدم شركات التقنية المالية الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات بديلة، ومعالجة الطلبات في ثوانٍ معدودة، واكتشاف المخاطر التي قد تغيب عن نظر الإنسان.

يشهد سوق التقييم الائتماني القائم على الذكاء الاصطناعي نمواً غير مسبوق، إذ يُتوقع أن يرتفع بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 25.9% خلال الفترة من 2024 إلى 2031. ويأتي هذا النمو في إطار تحوّل تكنولوجي أوسع نطاقاً، إذ يُتوقع أن يقفز سوق «الذكاء الاصطناعي في التمويل» من 38.36 مليار دولار في عام 2024 إلى نحو 190.33 مليار دولار بحلول عام 2030، ما يعكس حجم الاستثمارات الهائلة والتركيز الاستراتيجي الموجّه نحو هذه القدرات.

- تفكيك مفهوم التقييم الائتماني بالذكاء الاصطناعي: ما وراء الضجيج الإعلامي:

في جوهره، يعتمد التقييم الائتماني بالذكاء الاصطناعي على خوارزميات التعلم الآلي لتقدير احتمال تخلّف المقترض عن السداد. وعلى عكس النماذج التقليدية التي تعتمد على الانحدار الخطي وعدد محدود من المتغيرات، تستخدم النماذج الذكية تقنيات مثل «الشبكات العصبية» (Neural Networks) وتتيح هذه التقنيات تحليل آلاف النقاط البيانية في وقت واحد، مما يكشف عن أنماط وروابط دقيقة في السلوك المالي لا يمكن للأساليب التقليدية رصدها.

بدلاً من تصنيف المقترضين ضمن فئات ديموغرافية عامة، يُنشئ الذكاء الاصطناعي ملفات مخاطر شخصية. فقد يضع النموذج التقليدي شخصاً ما في فئة «عالية المخاطر» استناداً إلى العمر أو سجل السداد، بينما تستطيع الأنظمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي دمج مجموعة أوسع من المدخلات، من خلال مصادر بيانات بديلة ترسم صورة متكاملة للحالة المالية للمقترض، مثل:

- المعاملات المصرفية الموثقة: تحليل تدفقات الدخل المصنفة، والمصاريف المتكررة، والعادات الاستهلاكية، وأنماط الادخار لتحديد القدرة الفعلية على السداد.

- أنماط التدفق النقدي: تقييم تقلبات وتوقيت التدفقات النقدية يوفر فهماً أعمق للاستقرار المالي، خصوصاً للعاملين في الاقتصاد الحر أو الشركات الصغيرة والمتوسطة ذات الدخل غير المنتظم.

- مدفوعات الإيجار والمرافق: السجل المنتظم في دفع الإيجار وفواتير الاتصالات يعد مؤشراً قوياً على الانضباط المالي وغالباً ما يغيب عن تقارير الائتمان.

- المؤشرات السلوكية: يمكن للبيانات المالية أن تكشف عن أنماط في إدارة الحسابات والانضباط المالي ترتبط مباشرة بالجدارة الائتمانية.

من خلال دمج هذه المؤشرات في هوية مالية شاملة، تستطيع نماذج الذكاء الاصطناعي تقييم المقترضين بدقة أعلى ولا يعني ذلك إلغاء درجات الائتمان التقليدية، بل إثراؤها بطبقات إضافية من الرؤى التنبؤية التي تتيح تحليلاً أكثر دقة.

ويمثل هذا التوسّع في مفهوم الجدارة الائتمانية تحولاً عميقاً في إدارة المخاطر. فالنماذج التقليدية تقدم لمحة ثابتة عن السلوك الماضي، وتستند إلى البيانات التاريخية لتأكيد الموثوقية. بينما تقدم نماذج الذكاء الاصطناعي، بقدرتها على التعلم المستمر واستيعاب البيانات اللحظي، تنبؤات تكيفية مما يمكّن المؤسسات من استباق حالات التعثر ومعالجتها قبل وقوعها، بدلاً من الاكتفاء بتوثيقها بعد فوات الأوان.