في لحظة تستعيد فيها البحرين ذاكرة البحر وتستشرف أفق المستقبل، انطلقت الرحلة الأولى بين مرفأ سعادة في المحرق وميناء الرويس في قطر، كحدث يحمل رمزية عميقة؛ حيث لم يكن مجرد تدشين خط بحري، بل ولادة رؤية خليجية تضع البحر في قلب المعادلة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية بين دولتين شقيقتين تجمعهما الأخوّة والجيرة والمصير المشترك.
الرحلة البحرية التي تستغرق نحو ساعة وعشر دقائق لم تعد تُمثّل فقط عبورًا مائيًا، بل جسراً للتواصل والتقارب، ومسارًا للتنمية بين الشعبين، من مرافئ الغوص إلى موانئ العبور الحديث، يبحر المسافر على متن قارب مكيف في راحة تنافس الطيران، عبر صفحة زرقاء تحكي قصة خليج واحد بأهداف متوحدة، الإجراءات في مرفأ سعادة جاءت بسيطة وميسّرة، تعكس روح المشروع الذي يهدف لجعل السفر متعة وليس عبئاً، ولتحويل التجربة إلى ذكرى حية تنسج دفء العلاقات التي عادت لتنبض مجدداً.
تجسد الأسعار واقعاً اقتصادياً مناسباً لكل الفئات؛ حيث تبلغ تكلفة المقعد العادي للرحلة الواحدة 18 ديناراً، والدرجة الأولى 26.5 دينار، مع عروض مغرية للذهاب والعودة، لتكون تجربة النقل البحري خياراً شعبياً وسياحياً في آن، مزيجاً من الجودة والتيسير، بين الرفاهية والواقعية الاقتصادية.
هذه الرحلة ليست عبوراً فوق الماء فقط، بل هي بداية فصل جديد في الاقتصاد السياحي الخليجي، فالتجارب الدولية تثبت أن النقل البحري السياحي يساهم بين 3 إلى 5% من الناتج المحلي في الدول الساحلية المتقدمة كإيطاليا واليونان والنرويج، والآن تدخل البحرين وقطر هذا السباق من بوابة تجمع بين الأصالة والتكنولوجيا، مع تطبيق «MASAR» الذي يعكس التحول الرقمي في الخدمات اللوجستية، انسجاماً مع «رؤية البحرين الاقتصادية 2030» التي تقوم على التنافسية والاستدامة والعدالة.
يتعدى المشروع البعد الاقتصادي إلى بعد دبلوماسي مهم، حيث يرمز الخط البحري إلى دفء متجدد في العلاقات الخليجية، في وقت يحتاج فيه الإقليم لمسارات فعلية تعكس التعاون الحقيقي، يمثل الربط البحري أيضاً رسالة ثقافية تعيد تعريف مفهوم الأشقاء، ليس كقرب جغرافي فقط، بل كشراكة تنموية تنبض بروح الجيرة والاحترام المتبادل.
من الناحية الاجتماعية، تحمل الرحلة تجربة إنسانية فريدة؛ حيث يصبح الركاب أسرة مؤقتة يتشاركون القصص والانطباعات، في لحظات صافية تعكس تواصلاً إنسانياً عميقاً، توثق الهواتف الذكية هذه اللحظات لتصبح جزءاً من الحياة اليومية الحديثة، متجاوزة الترف السياحي إلى تجربة حياة متجددة.
ثقافياً، تعيد هذه الرحلة البحر إلى مكانته في الذاكرة الخليجية، كعنصر أساسي في الهوية المشتركة التي تشكلت عبر قرون من اللؤلؤ والملاحة، والبحرين اليوم تؤكد أن التنمية ليست أرقاماً فقط، بل استعادة لذاكرة المكان وتحويلها إلى أفق جديد.
سياسياً، يعيد هذا المشروع صياغة خريطة التوازن الخليجي عبر التعاون العملي والاندماج الاقتصادي، معززاً فلسفة «التكامل بدل التنافس» التي باتت من ركائز الخطاب الرسمي، كما يمثل امتداداً للدبلوماسية التنموية التي تنتهجها القيادة البحرينية بحكمة ورؤية بعيدة المدى.
من الناحية البيئية، يبرز المشروع كنموذج في النقل المستدام، حيث تشير الدراسات إلى أن الرحلات البحرية القصيرة تقلل الانبعاثات الكربونية بنسبة تقارب 40% مقارنة بالرحلات الجوية لمسافات مماثلة، مما يعزز دوره في دعم جهود حماية البيئة الخليجية.
ولا يمكن إغفال الجهود الحثيثة التي جسدت جوهر التكامل بين أجهزة الدولة في البلدين الشقيقين، حيث تعاونت وزارات المواصلات والاتصالات والداخلية والسياحة في كل من البحرين وقطر، لضمان نجاح المشروع وتيسير إجراءاته التشغيلية والأمنية والسياحية، كما كان للقطاع الخاص دور محوري كشريك فاعل من خلال استثماراته ومبادراته الداعمة، مقدماً نموذجاً يحتذى به في التكامل بين العمل الحكومي والخاص.
وفي ظل تحول البحر من مصدر رزق تقليدي، إلى منبع حياة اقتصادية واجتماعية حديثة، بدأت شركات السياحة تستثمر في تنظيم جولات على متن البواخر الكبيرة، ما يفتح أبوابًا جديدة للاقتصاد السياحي، ويعيد اكتشاف الخليج من منظور مختلف، خليج متجدد وأدواته حديثة، ومتصالح مع تاريخه.
إن تدشين الخط البحري بين البحرين وقطر ليس مجرد حدث في سجل النقل، بل فصل جديد في كتاب الوحدة الخليجية، كتبته الإرادة السياسية بالحكمة، وختمته الشعوب بالأمل، رحلة واحدة في الظاهر، لكنها تحمل بين أمواجها رحلات كثيرة نحو مستقبل أكثر ترابطاً وتكاملاً.
* إعلامية وباحثة أكاديمية