عبر تاريخها الطويل؛ لم تكن المنامة مدينة عابرة في الذاكرة الخليجية، حيث كانت على الدوام تفتح أبوابها للأشقاء والأهل، كلما دعت الحاجة إلى لقاء أو اجتماع، فهي كما «البيت العود» حين يستقبل أبناءه؛ بهدوء المدينة، ودفء تفاصيلها، واحترافيتها في التنظيم... كلها تجعل القادم يشعر أن هذه الأرض خُلقت لتكون محطة التقاء.
ومن خلال متابعتي الشخصية للاجتماع الدوري لرؤساء المجالس التشريعية الخليجية، الذي احتضنته المنامة الأسبوع الماضي، أستطيع أن أجزم أنه جاء ليُعيدَ التذكير بما هو أعمق من مجرد اجتماع روتيني، وهو التأكيد على أن البحرين تمثّل منصة الخليج حين يريد أن يتحدث أو يُعيد ترتيب أفكاره، أو أن يوجّه بوصلته نحو المستقبل.
منذ اللحظة الأولى لانعقاد الجلسة الافتتاحية، برئاسة معالي رئيس مجلس النواب، حمل الاجتماع رسائل سياسية واضحة، بأن العمل التشريعي الخليجي دخل مرحلة جديدة من التنسيق والتكامل، وأن المجالس البرلمانية أصبحت رافداً حقيقياً لصناعة القرار، بما يحمله من تحديات إقليمية ومتغيرات دولية متسارعة.
أهمية الاجتماع تمثلت في ما حمله من تأكيد جماعي على ضرورة تمتين العمل الخليجي المشترك، خصوصاً في الملفات التي تمسّ حياة المواطن بشكل مباشر؛ التنمية، الاقتصاد، التشريعات المشتركة، التعاون البرلماني، والدبلوماسية التشريعية، والتي أصبحت اليوم محوراً أساسياً في علاقات الدول الحديثة.
ولكن أكثر ما لفتني هو أن النقاشات تجاوزت الإشادة إلى بحث آليات عمل واقعية، وطموحات يمكن تحويلها إلى نتائج، مما يعكس نضج المجالس التشريعية المشاركة وقدرتها على استشراف ما ينتظر المنطقة من تحديات، وما يتطلبه المستقبل من مواقف موحدة.
إن البحرين، وهي تستقبل هذا الحدث الخليجي، أعادت التذكير بأن قيمة الدول تترسّخ بدورها وموقعها، وأن ما تمتلكه المنامة من خبرة في إدارة الاجتماعات والقمم، ومن جاهزية مؤسساتية وتشريعية، يجعلها اليوم محطة ثقة لدول الخليج، وبيتاً لكل حوار يُراد له أن يكون عميقاً وفاعلاً.
لقد نجحت البحرين في تقديم اجتماع برلماني خليجي راقٍ وفعّال، ونجحت مؤسستها التشريعية في أن تعكس صورة مشرّفة عن العمل البرلماني الوطني، ليس على المستوى الداخلي فقط، بل على المستوى الخليجي أيضاً.
ومن يتابع مسيرة هذه المجالس الخليجية مجتمعة، يدرك أن ما يحدث اليوم هو تأسيس لمرحلة جديدة من التكامل التشريعي، الذي يضع الإنسان الخليجي في قلب الأولويات، ويستند إلى رؤية مشتركة تقودها إرادة سياسية صلبة.
قد نختلف في التفاصيل، لكننا لا نختلف في أن هذا الاجتماع جاء ليقول شيئاً مهماً؛ إن الخليج، حين يجلس في المنامة، يجلس مطمئناً.. وحين يتحدث من المنامة، يتحدث بثقة.