هبة محسن


أكد رئيس مجلس إدارة الجمعية البحرينية للمسؤولية الاجتماعية خالد القعود أن التزام الشركات بالمسؤولية الاجتماعية لم يعد خياراً ثانوياً، بل ضرورة استراتيجية تعكس قيم الشفافية والاستدامة والعدالة، مشيراً إلى أن التحديات التي تواجه القطاع تتضمن؛ الاستدامة البيئية، وسلسلة التوريد العالمية المسؤولة، والتنوع والمساواة والشمول، والشفافية والإفصاح، وكذلك التوازن بين الربحية والمسؤولية، وتعزيز الثقافة المؤسسية.

وسلّط القعود، في لقاء خاص مع «الوطن»، الضوء على أبرز التحديات التي تواجه قطاع المسؤولية الاجتماعية على المستويين العربي والعالمي، في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المتسارعة عالمياً، التي جعلت المسؤولية الاجتماعية للشركات قضية محورية لمستقبل التنمية المستدامة، وإلى نص اللقاء:

ماذا تمثل الاستدامة البيئية في إطار المسؤولية الاجتماعية؟ وما هو أكبر تحدٍّ يواجهها؟

- الاستدامة البيئية تمثّل الركيزة الأهم في إطار المسؤولية الاجتماعية للشركات، حيث تعني قدرة المؤسسات على تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة عبر الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية وتقليل الانبعاثات والاعتماد على الطاقة المتجددة.

والتحدي الكبير يتمثل في ارتفاع تكاليف تطبيق الممارسات الصديقة للبيئة، إلى جانب الضغوط المتزايدة من الحكومات والمجتمع لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

إن الشركات اليوم لم تعد تقاس فقط بقدرتها على تحقيق الأرباح، بل أيضاً بمدى مساهمتها في الحَدّ من التغيّر المناخي وحماية البيئة للأجيال القادمة.

كما أن المؤسسات الرائدة عالمياً بدأت في دمج الاستدامة ضمن استراتيجياتها الأساسية، عبر تبني مبادرات مثل تقليل البصمة الكربونية، وإدارة النفايات، وتشجيع الاقتصاد الدائري.

كما أن بعض الشركات الخليجية والعربية بدأت بدورها في الاستثمار في مشروعات الطاقة النظيفة، والتحول نحو المباني الخضراء، وتطوير سياسات للمسؤولية البيئية، إلا أن التحدي الأكبر يكمن في الاستمرارية وتخصيص الموارد المالية والبشرية لتحقيق نتائج ملموسة.

كيف تُعتبر سلاسل التوريد مقياساً لالتزام الشركات بالمسؤولية الأخلاقية، وما هي التحديات التي تواجه الشركات في مراقبتها؟

- سلاسل التوريد تعتبر مقياساً حقيقياً لالتزام الشركات بالمسؤولية الأخلاقية، حيث يجب ضمان أن جميع مراحل التوريد تراعي المعايير الإنسانية والبيئية، والمعضلة تكمن في صعوبة مراقبة الموردين عبر الدول المختلفة، وانتشار قضايا مثل العمالة الغير نظامية وسوء ظروف العمل وغياب الشفافية.

كما أن توسع الشركات عالمياً جعل سلاسل التوريد أكثر تعقيداً وتشابكاً، الأمر الذي يزيد احتمالية وقوع مخالفات أخلاقية في مراحل الإنتاج المختلفة.

وكثير من المؤسسات اليوم تواجه تحديات تتعلق بتتبع مصادر المواد الخام، وضمان أن عمليات التصنيع والتوزيع تتم وفق معايير حقوق الإنسان والعدالة البيئية.

كما أن المستهلكين أصبحوا أكثر وعياً بمصدر المنتجات التي يشترونها، وأصبحت السمعة المؤسسية مرتبطة على نحو مباشر بمدى نزاهة وشفافية سلسلة التوريد.

وفي هذا الإطار، الشركات الكبرى بدأت في اعتماد أنظمة رقمية وتقنيات متطورة لتتبع المواد من المصدر وحتى وصولها إلى المستهلك، ما يعزز المصداقية، ويحد من المخاطر.

الشركات التي تغفل عن مراقبة مورديها، أو لا تضع سياسات واضحة للمسؤولية في سلاسل التوريد، معرضة لفقدان ثقة عملائها ومجتمعها، بل وحتى مواجهة قضايا قانونية وعقوبات تنظيمية. كما أن المسؤولية الاجتماعية في هذا الجانب لا تعني فقط الامتثال للقوانين، بل تتجاوز ذلك إلى حماية كرامة الإنسان وضمان أن لا يكون النجاح التجاري على حساب القيم الإنسانية.

ماذا ينقص الشركات الحديثة لتحقيق التنوع والشمول في بيئة العمل؟

- من أبرز التحديات هو تحقيق التنوع والمساواة والشمول في بيئة العمل، إن هذا المفهوم يقوم على احترام الفروق الثقافية والاجتماعية وضمان فرص متساوية للجميع، لكن المقاومة الثقافية داخل بعض المؤسسات وغياب الاستراتيجيات العملية يشكلان عائقاً أمام تعزيز مشاركة المرأة والشباب والأقليات.

وبيئات العمل الحديثة تتطلب رؤية جديدة تضع التنوع والشمول في قلب استراتيجيات الموارد البشرية، حيث أثبتت الدراسات العالمية أن المؤسسات التي تطبق سياسات شاملة ومتنوعة تحقق مستويات أعلى من الابتكار والإنتاجية والولاء الوظيفي، كما أن التنوع لا يقتصر فقط على تمثيل المرأة أو الشباب، بل يشمل أيضاً دمج الأشخاص من مختلف الخلفيات الثقافية والعرقية، وكذلك تمكين ذوي الإعاقة. ولدينا العديد من المؤسسات في المنطقة لا تزال تنظر إلى التنوع باعتباره «مبادرة شكلية» وليس جزءاً من الثقافة المؤسسية العميقة، وهو ما يحد من قدرتها على المنافسة عالمياً.

لذلك فالمطلوب هو دمج سياسات التنوع والمساواة ضمن أهداف الشركة طويلة المدى، ووضع مؤشرات أداء تقيس التقدم الفعلي في هذا المجال. كما أن الشمولية تعني توفير بيئة يشعر فيها كل موظف بالأمان والدعم والقدرة على التعبير عن رأيه دون تمييز، بالإضافة إلى أن الاستثمار في بناء ثقافة شاملة لا ينعكس فقط على الموظفين، بل يعزز صورة المؤسسة أمام المجتمع، ويزيد ثقة عملائها وشركائها.

ما هي أهمية الشفافية والإفصاح في أنشطة الشركات المتعلقة بالمسؤولية الاجتماعية؟

- موضوع الشفافية والإفصاح أمر شديد الأهمية، ولا بد من نشر تقارير واضحة وموثوقة حول أنشطة الشركات في مجال المسؤولية الاجتماعية وأثرها الحقيقي على المجتمع والبيئة، لكن للأسف، بعض الشركات لا تزال تمارس ما يعرف بالغسل الأخضر، عبر الاكتفاء بأنشطة شكلية تفتقد للأثر الفعلي، وهو ما يهدد ثقة المجتمع.

إن الشفافية لم تعد خياراً إضافياً للشركات، بل مطلباً أساسياً من المستثمرين والمجتمع والجهات التنظيمية، والمؤسسات التي لا تلتزم بالإفصاح الواضح قد تتعرض لفقدان سمعتها ومصداقيتها، وهو ما ينعكس سلباً على قدرتها التنافسية.

كما أن الإفصاح يجب أن يتجاوز مجرد إعداد تقارير سنوية شكلية، ليشمل مؤشرات أداء حقيقية وقابلة للقياس توضح كيف تسهم الشركة في حماية البيئة، وتنمية المجتمعات، وتعزيز رفاهية موظفيها.

العديد من الشركات العالمية الرائدة باتت تعتمد معايير وتقارير دولية لضمان الشفافية وتعزيز ثقة أصحاب المصلحة. هذه الممارسات لا ترفع فقط مستوى الثقة، بل تفتح آفاقاً جديدة للشركات للحصول على استثمارات دولية، إذ بات المستثمرون يفضلون المؤسسات التي تلتزم بالمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة.

إن الإفصاح لا يقتصر على النجاحات فقط، بل يجب أن يشمل التحديات والنقاط التي تحتاج إلى تطوير، لأن ذلك يعكس المصداقية، ويعزز ثقة المجتمع.

كما أن المسؤولية الاجتماعية لا تُقاس بعدد المبادرات التي يُعْلَن عنها، بل بمدى تأثيرها المستدام على حياة الناس والبيئة.

ما هو التحدي الذي يواجه الشركات في تحقيق التوازن بين الربحية والمسؤولية الاجتماعية؟

- إن تحقيق أرباح مستدامة مع مراعاة الأثر الاجتماعي والبيئي يُعد معادلة صعبة ومعقدة، وذلك بسبب الضغوط التي يفرضها المساهمون والمستثمرون لتحقيق أرباح قصيرة الأجل قد تتعارض مع الأهداف طويلة المدى للمسؤولية الاجتماعية.

إن بعض الشركات ما زالت تنظر إلى المسؤولية الاجتماعية كتكلفة إضافية، وليست استثماراً استراتيجياً يعود بالنفع على المدى البعيد.

الشركات التي تدمج المسؤولية الاجتماعية في جوهر استراتيجياتها تجد أنها تحقق في النهاية ميزة تنافسية، سواء من خلال تعزيز سمعتها، أو استقطاب الكفاءات، أو بناء ولاء المستهلكين.

والتجارب العالمية أثبتت أن المؤسسات التي تركز فقط على تعظيم الأرباح دون اعتبار للتأثيرات البيئية والاجتماعية تواجه مخاطر كبيرة، من بينها فقدان ثقة المجتمع، تشديد القوانين، أو حتى المقاطعة من العملاء.

لذلك التوازن المطلوب يتحقق من خلال الابتكار في نماذج الأعمال، بحيث يُرْبَط النمو الاقتصادي بتحقيق قيمة اجتماعية وبيئية حقيقية.

وتبني ممارسات الاستدامة مثل الاقتصاد الدائري، والاستثمار في الطاقة المتجددة، وتبني سياسات مسؤولة في إدارة سلسلة التوريد، باعتبارها أدوات تساعد الشركات على تقليل التكاليف من جهة وتحقيق أثر إيجابي من جهة أخرى.

كيف ترى مستقبل المسؤولية الاجتماعية للشركات؟

- مستقبل المسؤولية الاجتماعية للشركات يتطلب تعاوناً وثيقاً بين القطاعين العام والخاص، بالإضافة إلى تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية هذا النهج. علينا أن ندرك أن المسؤولية الاجتماعية ليست مجرد مبادرات علاقات عامة مؤقتة، بل هي التزام أخلاقي وإستراتيجي يضمن استدامة الأعمال وازدهار المجتمعات.

المرحلة القادمة تستوجب تطوير شراكات استراتيجية طويلة المدى بين الشركات والحكومات ومنظمات المجتمع المدني، بحيث يُوَظَّف الموارد والخبرات بشكل تكاملي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

وبيّن أن «النجاح الحقيقي لن يقاس بعدد الأنشطة أو حجم الإنفاق، بل بالأثر الفعلي الذي يتركه على حياة الناس وجودة البيئة. ويعد الاستثمار في التعليم والابتكار وسيلة لتعزيز ثقافة المسؤولية الاجتماعية، فبناء وعي الأجيال القادمة هو الضمان لاستمرار هذه القيم في مستقبل الأعمال. المجتمع الذي يدرك قيمة الاستدامة سيكون أكثر قدرة على محاسبة الشركات ومكافأة الممارسات المسؤولة.

التحديات العالمية الراهنة، من تغير مناخي، وضغوط اقتصادية، تضع على عاتق الشركات دوراً أكبر من أي وقت مضى، فالمسؤولية الاجتماعية لم تعد خياراً تجميلياً، بل أصبحت ضرورة استراتيجية تفرضها متغيرات العصر ومتطلبات الأسواق العالمية.