يشهد العالم حالياً مرحلة من التحولات المعقدة، تتداخل فيها الأزمات الاقتصادية مع الصراعات الجيوسياسية والتحديات البيئية، وسط تراجع تدريجي في مصداقية المؤسسات الدولية.
هذه الظروف تجعل المستقبل أكثر غموضاً، لكنها في الوقت نفسه تتيح المجال أمام من يملكون الجرأة لإعادة التفكير في أدوارهم ومواقعهم ضمن هذا المشهد المتغير.
في العالم العربي، ورغم التحديات المتراكمة، فإن اللحظة الراهنة قد تشكّل فرصة نادرة لإعادة رسم دور المنطقة عربيًا ودوليًا، إذا ما تم التعاطي معها بعقلانية وروح المبادرة، بدلاً من الاكتفاء بردود الأفعال.
تشير العديد من التحليلات العالمية إلى تفاقم أزمة متعددة الأبعاد، تجمع بين ركود اقتصادي، وتزايد مستويات الفقر، لاسيما في المناطق المتأثرة بالكوارث المناخية، إلى جانب تصاعد النفقات العسكرية على حساب الاستثمارات التنموية. هذا الاتجاه يحمل في طياته خطر تراجع الدول التي تظل معتمدة على الدعم الخارجي، مقابل تقدّم تلك التي تسعى لإعادة بناء قدراتها بشكل مستقل.
بالنسبة للعالم العربي، هناك عدة مسارات يمكن تحويلها إلى فرص استراتيجية. أولها يتعلق بالتغير المناخي. ورغم أن العالم العربي لا يُعد من كبار المساهمين في انبعاثات الكربون، إلا أن تأثيرات التغير المناخي تنعكس عليه بشكل حاد، مما يجعله من بين المناطق الأكثر تعرضاً للمخاطر البيئية.
هذه الحقيقة تتيح للدول العربية أن تتحول إلى طرف فاعل في البحث عن حلول بيئية من خلال تبني سياسات خضراء، والاستثمار في الطاقة النظيفة والتقنيات المتقدمة للتكيف مع المناخ.
المسار الثاني هو الاقتصاد الرقمي، إذ يشهد العالم تحولات متسارعة نحو الرقمنة والذكاء الاصطناعي. وتملك بعض الدول العربية، وخاصة في منطقة الخليج العربي، البنية التحتية والموارد التي تمكّنها من بناء قطاعات تكنولوجية محلية واعدة، إذا ما تم توجيه الاستثمارات نحو التعليم والبحث العلمي وتطوير الكفاءات البشرية، بدلاً من الاعتماد المستمر على التكنولوجيا المستوردة.
أما المسار الثالث فهو تعزيز التعاون الإقليمي. إذ مع تراجع فاعلية بعض الأطر الدولية التقليدية، تزداد أهمية الشراكات الإقليمية التي تُبنى على مصالح مشتركة وواقعية، خصوصًا في مجالات حيوية مثل الأمن الغذائي، والطاقة، والبنية التحتية، والتحول الرقمي. نجاح هذه المبادرات يتطلب تفعيل آليات عمل جماعي فعّال، تتجاوز الشعارات والبيانات البروتوكولية.
هنا لا يكفي تبني خطاب التفاؤل، بل يجب أن يستند الموقف العربي إلى قراءة واقعية للمتغيرات العالمية، وقدرة فعلية على الاستجابة والتكيف. الخريطة العالمية تشهد إعادة رسم متسارعة، حيث لم يعد التفوق مقصوراً على القوة التقليدية، بل بات مرتبطاً بقدرة الدول على التكيّف السريع واحتضان التغيير.
العالم العربي يقف اليوم أمام مفترق طرق حاسم؛ فإما أن يبقى في موقع المتلقي والمتأثر بالأحداث، أو ينتقل إلى موقع الفاعل والمبادر. والتحدي الحقيقي لا يتعلق بمدى توفر الإمكانات، بل بالإرادة والرؤية المطلوبة لاستثمار لحظة تاريخية قلّ نظيرها.