في مستهل الجلسة الافتتاحية للقمة الخليجية السادسة والأربعين، ألقى حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه، كلمة حملت صوت التاريخ وتطلعات الشعوب، ورسم فيها أمام قادة الخليج وشعوبهم ملامح خارطة طريق عنوانها "الوحدة والتكامل والاستقرار"، في لحظة فارقة من عمر المنطقة، حيث تتداخل التحديات، وتتسارع التحولات وتتبدل موازين القوى الإقليمية والدولية.
كان الترحيب بقيادة دولة الكويت للدورة السابقة يحمل في طياته تقديراً لتلك المرحلة وما تحقق فيها من جهود، فيما جاءت انطلاقة البحرين لهذه الدورة بروح عالية من المسؤولية والتطلع إلى المستقبل، وقد عبّر جلالة الملك المعظم رعاه الله عن ذلك حين أشار إلى (الحرص على مواصلة المسيرة العريقة للعمل الخليجي المشترك)، وهي عبارة تستدعي في الذاكرة المحطات الأولى التي بُني عليها المجلس، وتُعيد التأكيد على ثبات الرؤية ووحدة الهدف.
إحياء مفهوم الأمن الجماعي
أكد جلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه، على أن (أمن دول المجلس واستقرارها وازدهارها كلٌّ لا يتجزأ)، وهي عبارة تحمل مضموناً استراتيجياً يعيد حضور المبدأ الذي تأسس عليه مجلس التعاون، مبدأ يقوم على وحدة المصير وتكامل الحماية، وتأتي هذه الإشارة في لحظة تتزاحم فيها التهديدات الإقليمية، وتتغير فيها طبيعة المخاطر من حدود جغرافية واضحة إلى فضاء أوسع يتأثر بما يجري حول دول مجلس التعاون الخليجي من توترات وصراعات متسارعة، كان من بينها تعرض قطر لهجمات مباشرة خلال العام الماضي، في واقعة أظهرت أن أي دولة خليجية قد تجد نفسها على خط المواجهة نتيجة تصاعد الصراع بين القوى الإقليمية، وقد شكّلت تلك التطورات مثالاً حياً على أن الخطر الذي يطرق باب عاصمة خليجية يمتد أثره إلى العواصم الأخرى، وأن أمن المنطقة شبكة مترابطة لا تنفصل مساراتها عن بعضها.
وفي هذا السياق اكتسبت العبارة بُعداً يتجاوز التوصيف السياسي، لتتحول إلى تثبيت لالتزام جماعي يجعل أمن الدولة امتداداً لأمن جارتها، ويمنح مجلس التعاون الخليجي قدرة أكبر على التعامل مع المستجدات، وتُقرأ هذه الرسالة كإطار يُظهر أن القرار الخليجي يتحرك بوتيرة واحدة، وأن الاستجابة للتحديات تُدار من منطلق موحّد يحمي الاستقرار الداخلي، ويصون التوازن الإقليمي.
ومع هذا التأكيد، يقترب المواطن الخليجي من فهم أوضح لطبيعة المرحلة، مرحلة تقوم على التماسك السياسي وتعزيز منظومة الدفاع المشترك، في وقت تتقاطع فيه مصالح دول مجلس التعاون الخليجي، وتتداخل فيه ملفات الأمن والطاقة والملاحة البحرية، وتتماهى هذه الرؤية مع تطلعات الناس نحو بيئة أكثر أماناً، وتحمل تطميناً بأن مجلس التعاون يتعامل مع الواقع الإقليمي بأدوات متجددة ورؤية قادرة على مواكبة التحولات.
الاقتصاد الخليجي: نحو اتحاد ملموس
وحين أشار جلالته حفظه الله ورعاه في القمة الخليجية إلى (النجاحات المحققة في مسارات المواطنة الخليجية والوحدة الاقتصادية)، كان يضع القارئ أمام مشهد متدرّج يتحول فيه التكامل من مفهوم نظري إلى واقع محسوس، فالمواطن الخليجي بدأ يلمس نتائج هذا المسار في تفاصيل حياته اليومية؛ من إجراءات تعزز انسيابية الحركة بين الدول، إلى توجّه فعلي نحو تشغيل منصة موحّدة لتبادل البيانات الجمركية، الأمر الذي يسهم في تقليص الزمن التجاري ورفع كفاءة المعابر الاقتصادية، ويقود نحو مرحلة أكثر نضجاً في مسار الاتحاد الجمركي.
ويمتد هذا التصور ليشمل آفاق السوق الخليجية المشتركة، التي بدأت تكتسب حضوراً أوسع بفضل السياسات التي تعمل على تسهيل انتقال السلع ورؤوس الأموال والخدمات، بما يسمح بتشكيل بيئة اقتصادية متكاملة ترفع من مستوى التنافسية، وتمنح المواطن فرصاً أوسع للنمو والعمل والاستثمار، وهذه الخطوات تنعكس على مجمل الأداء الاقتصادي لدول المجلس، وتمنح القطاع الخاص قدرة أكبر على التعامل مع فضاء اقتصادي موحد يتجاوز الحدود التقليدية.
وحين تحدث جلالته أيده الله عن (توسيع شراكات الأمن الغذائي والمائي والاقتصاد الرقمي والطاقة المتجددة)، كان يُعيد رسم الأولويات وفق رؤية ترتبط مباشرة بمسارات المستقبل، فالأمن الغذائي والمائي يشكّلان اليوم أهم ركائز الاستقرار الاجتماعي، ويأتي تعزيز هذه الشراكات كمسار يرفع من قدرة دول الخليج على التعامل مع تقلبات الأسواق العالمية وتحديات التغير المناخي.
أما الاقتصاد الرقمي، فهو الباب الأكبر لتأهيل المنطقة لجولات جديدة من الابتكار والتنافسية، حيث يعمل على خلق منظومات جديدة للنمو عبر الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، والتقنيات المالية، وتكتمل الصورة مع التوجّه نحو الطاقة المتجدّدة، الذي يضع الخليج في موقع متقدّم ضمن التحولات العالمية نحو مصادر نظيفة وأكثر استدامة، ويمنح اقتصادات دوله بُعداً إضافياً في معادلة التنويع الاقتصادي.
ويتكوّن من مجموع هذه المسارات مسار واحد يربط الاقتصاد الخليجي ببيئة عالمية تُعاد فيها صياغة تعريف الأمن القومي من جديد؛ أمن يعتمد على الغذاء والماء والطاقة والتكنولوجيا، ويجعل من دول الخليج شريكاً فاعلاً في رسم ملامح المرحلة المقبلة، عبر سياسات تُبنى على الخبرة والاستشراف والقدرة على التكيف مع التحولات الدولية.
الرسالة الأهم: فلسطين أولاً
بحزمٍ يليق بالمكانة الخليجية، أعاد جلالة ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه، القضية الفلسطينية إلى مركز الخطاب السياسي، واضعاً فلسطين في صدارة الأولويات الاستراتيجية، فوصفها جلالته بأنها جوهر الأمن العربي، ومرآة التوازن الإقليمي، ففي خطاب جلالته الافتتاحي، جاء التأكيد على دعم تنفيذ خطة السلام في غزة بوصفه خطوة تنطلق من رؤية أوسع تضع إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، وهذا الموقف يتصل مباشرة بما طرحه جلالته في القمة العربية التي استضافتها المنامة قبل عام، حين شدّد على الدعوة إلى مؤتمر دولي للسلام، ودعم الاعتراف الكامل بدولة فلسطين وقبول عضويتها في الأمم المتحدة، مع توصيف السلام كمسار إنساني طويل المدى يرتبط بحق الفلسطينيين في الأمن والحرية وتقرير المصير.
وجاء حديث جلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه عن فلسطين محمّلاً بروح السيادة والكرامة، وبخطاب ينسجم مع طبيعة المسؤولية التاريخية تجاه هذه القضية، فعندما عاد جلالته في القمة الخليجية 2025 ليجدّد هذه الرؤية، كان يُعيد تثبيت توجّه سياسي تتبنّاه البحرين على مستوى القيادة، وتقرؤه الشعوب العربية باعتباره موقفاً يعزّز العدالة، ويحفظ أمن المنطقة، وتزداد دلالة هذا الطرح مع إدراك العامة أن إنصاف الفلسطينيين يشكّل قاعدة متينة لأي توازن إقليمي، وأن استعادة الحقوق تمنح المنطقة فرصة لعبور أزماتها نحو مرحلة أكثر رسوخاً.
وفي هذا الإطار، بدا البيان الختامي للقمة الخليجية امتداداً طبيعياً للخطاب الملكي، حين دعا إلى مؤتمر دولي لإعادة إعمار غزة، وطرح رؤية تستند إلى دور خليجي فاعل في بناء الاستقرار، وهذا التوجه ينسجم مع ما حملته القمة العربية في البحرين من مبادرات إنسانية وإغاثية، مثل إنشاء صندوق دولي لرعاية أيتام غزة ودعم انتشار قوات حفظ السلام في الأراضي الفلسطينية، في لحظة التقت فيها الإرادة السياسية مع صوت الشارع العربي الذي يبحث عن خطوات عملية تحمي الفلسطينيين من ويلات الحرب.
وتبرز في الخطاب الملكي السامي، فكرة مركزية تجمع بين السلام والتنمية، حيث تُقدّم البحرين رؤية تعتبر أن البيئة الآمنة هي الطريق الطبيعي للنمو، وأن المستقبل الإنساني للمنطقة يعتمد على منظومة حقوقية واضحة تضمن المساواة، وتصون الحريات وتمنح الشعوب القدرة على بناء استقرارها الذاتي، ومن هذا المنطلق جاءت عبارات جلالته مثل (الغد المشرق) و(تعزيز حقوق الإنسان) و(العدالة والتنمية الشاملة) لتعكس مساراً سياسياً يُبنى على قيم واضحة لا على ردود أفعال ظرفية.
وعند قراءة هذا التوجه في سياق أوسع، يبدو موقف البحرين من فلسطين جزءاً من رؤية استراتيجية تجعل القدس محوراً للاستقرار، وتضع غزة في موقع البوابة التي يُعاد عبرها ترتيب المشهد الإقليمي، وتدرك الشعوب العربية اليوم أن المواقف التي تُطرح بوضوح هي الأقرب لوجدانها، وأن الخطاب المتوازن هو الذي يحوّل الصوت السياسي إلى مشروع يُبنى عليه، ومن هنا، جاءت القمة الخليجية في المنامة لتعيد التأكيد على أن الموقف الخليجي حين يتقدم برؤية واحدة، يصبح قادراً على التأثير في المعادلة الدولية، ويمنح القضية الفلسطينية مساحة تليق بتاريخها وتضحياتها.
الخليج والشرق الأوسط: سيادة بلا تهديد
وفي جانب آخر من الخطاب، شدّد جلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه، على حماية الملاحة البحرية وضمان خلو منطقة الخليج العربي من أسلحة الدمار الشامل، في رسالة تحمل أبعاداً سياسية واضحة أمام ما تشهده المنطقة من تحولات وتوترات متسارعة، وتبرز أهمية هذا الطرح في ظل ازدياد التعقيدات المرتبطة بالأمن البحري وبدور الخليج كعقدة استراتيجية في حركة التجارة العالمية، إضافة إلى ما تشهده السواحل الإقليمية من مؤشرات خطرة تتطلب يقظة جماعية وحضوراً سياسياً متماسكاً.
وقد شكّلت دعوة جلالته حفظه الله ورعاه، إلى إقامة (شبكة تحالفات) ترجمة عملية لفهم عميق لمنظومة الأمن الحديثة، حيث تتقاطع المصالح الإقليمية والدولية في مساحة واحدة، وتتطلب إدارة متوازنة تجمع بين الخبرة والقدرة على قراءة اللحظة، وفي الإطار نفسه، جاءت الإشارة إلى "قيم التعايش السلمي" لتضع الأمن في سياق أشمل يعتمد على الاستقرار الإنساني والاحترام المتبادل، ويعزّز قنوات التعاون التي تحفظ المنطقة من موجات التصعيد.
وتكشف هذه الرؤية عن إدراك لطبيعة التحديات المحيطة بالخليج، من التطورات المرتبطة بالملف النووي، إلى النشاطات التي تهدد الملاحة، وتربك أسواق الطاقة، ويظهر في الخطاب توجه واضح نحو بناء منظومة أمنية مرنة، تعتمد على الشراكات الواسعة، وتمتد من الخليج إلى المحيط الهندي والبحر الأحمر والمتوسط، بما يضمن استقرار المسارات الاقتصادية، ويُعزز الثقل الاستراتيجي لدول المجلس.
وهكذا تتقدّم الرؤية الملكية نحو صياغة مفهوم أوسع للأمن الإقليمي، مفهوم يرتبط بالاقتصاد وحركة التجارة والتكنولوجيا والسيادة، ويتعامل مع التحديات بطريقة ترفع من حضور الخليج على طاولة القرار الدولي، ومع هذا الطرح، يجد المتابع أن الخطاب يقدم مقاربة عملية تمنح شعوب دول مجلس التعاون الخليجي مساحة أكبر من الاطمئنان، وتفتح أمام المنطقة آفاقاً جديدة لبناء مرحلة أكثر رسوخاً واستقراراً.
من قمة البحرين إلى مستقبل الخليج
اختتم مجلس التعاون دورته السادسة والأربعين في المنامة، بتأكيد راسخ على أن دول مجلس التعاون الخليجي تدخل مرحلة جديدة تتضح فيها ملامح المصير المشترك، ذلك المصير الذي صاغته كلمات جلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه، في كلمته الافتتاحية، وأعاد البيان الختامي تثبيته بقرارات ومسارات عملية، فقد حمل إعلان القمة رسائل تضع الأمن في قلب الأولويات، وتمنح التكامل الاقتصادي مساراً زمنياً واضحاً، وترسّخ مكانة المواطن الخليجي في صميم منظومة العمل المشترك.
جاء في البيان الختامي، ما يعزز ما ورد في الخطاب الملكي، دفعٌ نحو الاتحاد الجمركي، وتسريعٌ لمتطلبات السوق الخليجية المشتركة، واعتمادٌ لخطوات الربط البري والبحري، وتحديثٌ للأنظمة التي تنظّم حركة الأفراد ورؤوس الأموال، وامتد التركيز إلى الملفات التي تلامس تفاصيل الحياة اليومية، من الأمن السيبراني إلى مبادرات البيئة والطاقة، في إشارة إلى أن التكامل يتحول إلى مشروع يتقدم عبر قرارات متتابعة، يقترب أثرها من حياة المواطن الخليجي خطوة بعد أخرى.
وفي الجانب السياسي، عبّر البيان عن رؤية خليجية متماسكة تجاه القضية الفلسطينية، داعياً إلى مؤتمر دولي لإعادة الإعمار، ومؤكداً ضرورة رفع المعاناة عن غزة، وملتزماً بمبدأ إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وهذه الرسائل تعكس توجهاً خليجياً يرى في فلسطين محوراً لاستقرار المنطقة، وتناغمت مع الخطاب الملكي الذي وضع السلام العادل في موقع الركيزة الأساسية للمستقبل.
كما أشار البيان إلى أهمية الشراكات الاستراتيجية، من مبادرة "GCC-Med" إلى التعاون مع أوروبا وآسيا، بما يعزز حضور الخليج في القضايا العالمية، ويمنح اقتصادات الدول الأعضاء خيارات أوسع في عالم يتغيّر بسرعة، ومع هذا الانفتاح، تقترب دول المجلس من بناء شبكة علاقات دولية أكثر توازناً، تُسهم في حماية المصالح وتعظيم الفرص.
ومع نهاية القمة، تتقدم أمام المواطن الخليجي صورة أكثر وضوحاً لمجلس التعاون الخليجي، فهو مجلس يتعامل مع أمنه كوحدة واحدة، ويطوّر اقتصاده ضمن فضاء مشترك، ويمنح القضايا الإنسانية وزنها الطبيعي، ويُعيد إلى الخليج حضوره المتوازن على الساحة الدولية.
إن قمة البحرين، كانت محطة مفصلية تكشف عن مرحلة جديدة يتحرك فيها الخليج بثقة أكبر، ورؤية أدق، وخطوات أقرب إلى احتياجات الناس.
ومع استمرار العمل على ما جاء في الخطاب والبيان، يلوح أفق خليجي مختلف.. أفق تتقدم فيه مشاريع التكامل، وتترسخ فيه قيم الشراكة، ويجد فيه المواطن مساحة أكبر من الاطمئنان بأن المصير الواحد يتشكل أمامه كحقيقة تتجسد في الأمن والتنمية والاستقرار، وهذا هو الاتجاه الذي رسمته المنامة، التأكيد على خليج موحّد، وشعوب أكثر قرباً من طموحاتها، ومستقبل يتجه نحو بناء مرحلة تليق بتاريخ المنطقة وتطلعات أبنائها.