كيف لي أن أبدأ رثاء جدّتي الحبيبة، فيما الحروف تخون والقلب يضيق كلما حضرت سيرتها؟ لقد رحلت جدّتي لطيفة، أم أحمد، المرأة التي لم تكن مجرد جدّة، بل كانت أماً ثانية، وصديقة قريبة، وملاذاً نلجأ إليه كلما ضاقت بنا الأيام. لم تكن وجوداً عابراً في حياتنا، بل كانت روح البيت وعماده، وكانت بركته ودعاءه الذي يسبق كلماتنا إلى السماء. ما عرفنا عنها إلا الخير، ولا سمعنا منها يومًا كلمة تؤذي أو نظرة تعاتب. كانت صاحبة قلب نقي، تمنح محبتها دون شرط، وتفيض بعطائها دون انتظار المقابل.
ورحيلها... كان وجعاً عميقاً، وكسراً لا يرمم، وفراغاً لا يمكن لأحد أن يملأه. فقد خلّفت مساحة واسعة لا يشغلها سواها، وغيابها يزداد حضوراً في تفاصيل يومنا ومع كل لحظة حنين.
كانت بالنسبة لي مصدر أمان وطمأنينة، وكانت من أغلى وصايا والدي -رحمه الله- التي أحملها في قلبي. وبرغم أنها لم تتعلّم القراءة ولا الكتابة، إلا أنها كانت تتمتع بوعي راسخ وثقافة بالحياة تُدهش من يعرفها. كنت كلما تحدثت إليها عبر الهاتف، أو جلست معها في اجتماعنا الأسبوعي كل يوم جمعة، أزداد يقينًا بحكمتها، ورجاحة عقلها، ودقّة نظرتها في شؤون البيت والمجتمع.
وكان حديثها عن الماضي الجميل «زمان أوّل» من أمتع ما نسمعه؛ لا نرغب في أن تتوقف، بل نطلب المزيد، نستمع ونتعلم ونحفظ من حكاياتها ما يثري ذاكرتنا ويعمّق صلتنا بجذورنا.
لقد رحلت لطيفة بنت حسن، أم أحمد، جسداً، وبقي أثرها وسيرتها ودفء حضورها. كانت شمعة الدار التي تنير أيامنا بدعواتها، ولايزال نورها في قلوبنا مهما غاب الجسد. أفتقدها، وسأظل أفتقدها مع مرور الأيام، ففقدها ليس عابراً، بل هو فقد يمتد لعمرٍ كامل. وما يواسيني هو يقيني برحمة الله الواسعة، وأنه سبحانه أرحم بها منا.
اللهم ارحم جدّتي رحمةً واسعة، واجعل مثواها الجنة، ونوّر قبرها، واجعل دعواتها صدقة جارية لها، واربط على قلوبنا بالصبر والسلوان.