من على ضفاف نهر النيل، حيث الماء يكتب التاريخ على مهل، وتتنفس الضفاف الحنين، شاءت الأقدار أن تأتي إطلالتي هذه المرة من أرض الكنانة، وبين دفء شعبها النبيل، لأرى وطني بعينٍ أكثر شوقاً، وقلبٍ يراه أقرب من أي مسافة. أراه يزهر فرحاً، ويعلو بأهازيجه حتى وصلت مداها إلى وجداني، أشعر به وهو يجمع أبناءه في موسمٍ لا تُقام فيه الاحتفالات لتمرير اللحظة؛ بل لتوقظ المعنى والهوية. في أعيادها الوطنية، تُحوّل البحرين الفرح إلى لغة تُدوّن بها سيرة وطن، والانتماء إلى حضورٍ حي لا تحدّه الشعارات.
لقد تجاوزت فعاليات موسم أعياد البحرين هذا العام مفهوم الاحتفال بالذكرى، لتصبح مشروعاً وطنياً متكاملاً، يُعبّر عن رؤية ثقافية راسخة قوامها أن الوطن لا يُحتفى به في يوم، بل يُحتفل به كفكرةٍ تُترجمها الأفعال، وتمنحها الفعاليات نبضاً حيّاً في الشوارع، وفي الساحات، وفي قلب كل مواطن وزائر ومقيم. من «ليالي المحرّق» التي غنّت التاريخ، إلى «القرية التراثية» التي فتحت باب الزمن على مصراعيه، مروراً بـ«مراعي» و«سوق المزارعين» و«هوى المنامة» المرتقب وغيرها من الفعاليات المصاحبة لهذا الموسم، وكأنّ البحرين تُعرّف معنى أن يكون الفرح فعلاً مجتمعياً جامعاً، يُجسّد الذاكرة، ويُكرّس المستقبل.
في أعياد البحرين، غادرت الهوية البحرينية متاحف الصمت، وسكنت تفاصيل الحياة اليومية، متجليةً في كل ما يُحتفل به ويُروى، بل ومتجددة على إيقاع الفولكلور والعروض التراثية، وفي خطوات الأطفال وهم يتعلّمون المهن القديمة، وفي رائحة القهوة المتصاعدة من بيوت الطين، وفي لمسة الحرفيين الذين يحوّلون التاريخ إلى حرفة تنبض بالجمال. كل زاوية في تلك الفعاليات، وكل مشاركة، كأنها تقول: نحن نُكرّم التراث ونُعيد تشكيله، لأننا نؤمن بأنه باقٍ فينا ما دمنا نعرف كيف نُحييه.
ولأن الفرح، حين يكون أصيلًا، يتجاوز الجغرافيا، فإن هذه الأعياد لم تبقَ بين حدود البحرين. بل إن الخليج كله احتفل معنا، بما يعكس أواصر الأخوّة والترابط في البيت الخليجي الواحد. من الإمارات والسعودية وقطر، إلى الكويت وعُمان، حيث شاركت فرحة البحرين بأعيادها الوطنية، في لفتة كريمة تجلّت فيها عمق العلاقات الأخوية والتاريخية، كما شاركنا العديد من مواطني هذه الدول بحضور فعاليات أعياد البحرين واحتفالاتها، وعبّروا عن إعجابهم بما شاهدوه، وتعالت الإشادات عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ كلمات صادقة في حب البحرين، واحتفاءٌ بروح البحريني الذي فتح قلبه قبل أبوابه. كانت تعليقات الأشقاء على الصور والمقاطع تُحاكي اكتشاف ذواتنا من خلال عيونهم. وكانت هذه الردود أكبر من مجرد مجاملة؛ بل كانت امتداداً لروابط الخليج، وللوشائج التي تزداد عمقاً حين يكون الفرح خليجياً، والنبض واحداً.
نعم قدّمت البحرين نفسها من جديد كوجهة نابضة بالثقافة والإبداع والروح الأصيلة. أصبحت الفعاليات الوطنية نافذةً على تجربة بحرينية متفرّدة: تجربة تُقدّر الذاكرة، تستثمر في الجمال، وتحوّل المناسبات إلى مواسم للحياة. وقد لمسنا هذا الصدى الإيجابي في التغطيات الإعلامية والمشاركات الفنية والإقبال الجماهيري الذي تجاوز التوقعات؛ ليمنح البحرين موقعاً جديداً على خارطة الفعل الثقافي والسياحي في المنطقة.
وفي ختام هذا المشهد، وبين زخم الفعاليات، وبهجة الوطن، أرفع يديّ دعاءً وامتناناً، وأبارك لمملكتنا الغالية أعيادها الوطنية المجيدة، وأزف التهنئة إلى قيادتنا الحكيمة؛ لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه، وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء حفظه الله، وإلى شعب البحرين الوفي، وإلى كلّ بحريني عشق هذه الأرض وأضاء من قلبه شمعة حبّ لها.
كل عامٍ ووطني أجمل، بهويته، وشعبه، وقيادته التي تؤمن أن الأوطان تُشيَّد بالعقول والقلوب، وبالإنجازات التي تلامس العالمية، وبالفرح الذي يسمو بالوجدان، وبالانتماء الذي لا يتزعزع.