الصلحُ خيرٌ كلّه، والإصلاحُ مِنْ أجَلّ الأعمال وأنفعها للناس، والتّصالح والتّفاهم صفةُ العقلاء ودأبُ أصحاب النفوس الرفيعة؛ فالحكماءُ وأهل البصيرة يتصالحون ويتسامحون، وَيَنْسوْنَ المنغّصات والمشاكل، ولا يجعلون مِنَ العَثرات والزّلات أسبابًا لقطع الوُدّ والمحبّة، بل يتجاوزونها حِفَاظاً على صفاء القلوب واستمرارِ العلاقات، وصوناً لأنفسهم مِنْ صراعات لا منْتصر فيها ولا ثمرةَ وراءها.
ومن أهم أبواب التصالح: أن يتصالح الإنسان مع محيطه القريب؛ مع مجتمعه، وأسرته، وأصدقائه، غير أنّ أعمق هذه الأبواب وأدقّها هو التّصالح مع النفس، دون مقارنتها بالآخرين أو إقحامها في منافسةٍ في غير محلّها، فكلٌّ ميسّرٌ لما خُلق له، ولله في خلقه شؤون.
لا ريب في أنّ الحياة ثمينة
لكنّ نفسك مِنْ حياتك أثمن
وقبولُ الذات يبدأ بالاعتراف بنقاط الضعف والقصور، والنظر إليها بوعيٍ وفَهْمٍ، ثمّ السير في طريق الإصلاح والتغيير بخطوات هادئة ومتتابعة التي ستشكّل في نهاية المطاف رحلةً قويّة الأثر، راسخة العلامة، عظيمة الفائدة إن شاء الله تعالى.
ومن معالم التصالح مع النفس أن يرضى الإنسان بقضاء الله وقدره، ويُدرك نعم الله عليه، ويعيش في حدود يومه، دون الانغماس في هواجس ماضٍ ولّى زمنه أو القلق بشأن مستقبل لم يشرق فجره بعد؛ وذلك حتى يخفُّ ضجيج النفس، ويزداد اتزانها، وتهدأ مسالكها.
ويدخل في هذا الباب احترام الموهبة مهما كانت بسيطة، وتعزيز اللغة الإيجابية في الحوار الداخلي مع النفس، والاستقامة على الطريق، وعدم محاولة إرضاء الجميع؛ فغايات الناس لا تُدرك، ومطالبهم لا تنتهي!!
والحياة -كما يصفها أهل الخبرة- ليست خطاً مستقيماً ولا مساراً واحداً؛ بل فيها أفراح وأتراح، وساعات ضيق وبسط، وفرص نجاح ومطبات إخفاق، هي رحلة طويلة في صحراء واسعة؛ قد تمرّ فيها برياض وأزهار، وسهولٍ ووديان، ثم تُفاجئك رياحٌ عاتية ومفاوز مخفية تحتاج إلى صبر وهمّة، لذا لا تقف عند محطة واحدة، فليس كل مكان يستحق الوقوف والانتظار والتسليم، ولا كلّ حادثة تستوجب الشكوى والتذمّر والعتاب، بل تصالح مع نفسك وانطلق إلى الأمام واثق الخطى وأكمل المسير، قال أحمد شوقي امير الشعراء:
كم واثق بالنّفس نهّاض بها
سادَ البريّة فيه وهو عِصامُ
ويرى علماء النفس أن الشخص الناجح يصالح نفسه، ويتقبلها كما هي، ويرى أن تقييم الآخرين ليس معيارًا أساسيا؛ وأنه لم يُخلق ليسكن في دائرة الاتهام، ويشكل حياته وفق رغبات الناس، فمَنْ عرف نفسه لا يضرّه ما يقوله الناس فيه.
ومِنْ تمام التصالح مع النفس، العمل على مبدأ اللامبالاة والتغافل أحياناً، وعدم التبريرات للآخرين في كل صغيرة وكبيرة، فالإفراط في التبرير علامة اضطراب داخلي وضعف ثقة، وهو استنزافٌ للعقل والصحة، وكثرة الاعتذار تُقحم صاحبها في دائرة الاتهام من حيث لا يشعر.
شمعة أخيرة
لا تبحث عن السلام والجمال والسكينة بعيداً عن نفسك، ستجد السلام في صدرك، والجمال في روحك، والطمأنينة في قلبك إنْ ذكرتَ ربّك، وأخلصتَ عملك، وصالحتَ نفسكَ.
* دكتوراه في الأدب
العربي ومدرب معتمد