أجرى اللقاء – جعفر الديري: إن الشاعرة التونسية زهور العربي، ليست كما كانت بالأمس تكتب من وحي الحاجة وحسب، بل أصبحت اليوم تكتب من وحي الرغبة في الحياة، ما يعني أنّ هم الكتابة والإبداع تضاعف بالنسبة لها. إنها تشير في هذا اللقاء إلى أن القلم «كان حاجة ما نعبّر عنه بالفرنسيّة besoin لنستمر، فتكون مثل الماء والهواء والأكل... وتملأ فراغاً ضروريّا ذاتيّا بالأساس، لكن مع تحقّق الإشباع الشّخصي، يتحرّر القلم أكثر ولن يقنع بما هو موجود، فتحضر الرّغبة، ويبحث عن المزيد والإضافة والفعل بالسّعي إلى تغيير الواقع والنّبش في المحظور وفي المسلّمات رغبة في تطويرها أو الثورة عليها أو رفضها». من أجل ذلك ترى أن الشعر «ليس رفاهية ولا هو ولا هو تسلية، الشعر ضرورة ويقظة وبناء داخلي متين ومهيب وهو الالتصاق بالواقع بكلّ انكساراته وهمومه وأفراحه وأتراحه، فهو إذن حضور عميق في قلب العالم الواقعي». «إنها لعمري المشقّة الممتعة التي يجد فيها المبدع آفاقاً أرحب للإبداع والسّفر بعيداً بأجنحة الكلمة» لذلك «لا تضيق زهور بمعاناة الكتابة لأنها تراها وقوداً لقلمها ليتوهّج أكثر رغم الوجع».في هذا اللقاء تتحدث زهور عن القلم المرأة، تونس، الحرية، وعن قصيدة النثر وتزيل ما علق بالأذهان عن تونس الخضراء، مؤكدة أن اللغة العربية والتراث العربي في قلب اهتمامها، ملقية بصيصاً من الضوء على المشهد الثقافي التونسي، وإسهامات المرأة التونسية. فإلى هذا اللقاء... ^ فلنبدأ معك لقاءنا بالسؤال عن هذه الأسماء: المرأة، تونس، الحرية؟ أيها لايزال قادراً على استثارة قلمك؟ - كلّ هذه الكلمات مجتمعة ينحني لها قلمي وينهل من معينها ليستمر شامخاً ويصرخ عالياً ويتحرّر من كلّ القيود ليليق بهذا «الثالوث المقدّس» وليترك بصمة مشرّفة فكلّ اسم يمثّل قيمة وقاعدة صلبة يجب أن يقف عليها كلّ مبدع فيذود عن الوطن ويعانق الحريّة ويستبسل في الدّفاع عنها ويكون الفارس الذي يساند المرأة في محاربة الجهل والعلوّ بها وتكريمها ويقطع بنصل الكلمة رؤوس خفافيش الظّلام التي تسعى إلى العودة بها إلى الخلف إلى عصور الظلام واعتبراها عورة وحصر وظيفتها في تلبية غرائزهم المريضة متناسيناً أنّ الله كرّمها بنتاً وزوجة وجعل الجنّة تحت أقدامها أمّاً...الأصالة أولاً ^ كثيرون يعتقدون أن الشاعر الذي يكتب قصيدة النثر دون أن يكون صاحب تجربة في الشعر العمودي.. شاعر ناقص لا أصالة له أي لا يرتكز على مخزون لغوي أو إنشائي أصيل.. فهل ترين هذا الرأي؟ - أعتقد أنّ المبدع الحقيقي يجب أن يكون قد نهل من موروثنا الأدبي حدّ الامتلاء، وعليه حتماً ستكون لديه رواسب هامّة من هذا الموروث الثريّ في مختلف حقباته التّاريخيّة منذ الجاهلية وصدر الإسلام وما تبعهما، وأغلبنا مسكون بتلك الإيقاعات الخليلية ويحفظ من تلك المعلّقات الشهيرة الكثير وأثّرت فينا ونحتت ذائقتنا للكلمة وللشّعر خاصّة، فمن يتنكّر لموروثه لا يرجى منه خيراً ولن يكون له مستقبلاً. لكن هذا لن يجعلنا نتوقّف عندها بتعلّة الغيرة على قصيدة التّفعيلة، والتّعامل معها كمقدّس لا يمكن الاقتراب منه ونلغي إبداع من لا يكتبها، فكم من قصيدة تفعيلة جوفاء لا تحمل سوى الإيقاع الذي أراه في متناول الجميع! وكم من قصيدة نثر تلوي لها الأعناق لما تختزله من صور وعمق وبلاغة وتأمّل ولغة دامغة وراقية! ومع ذلك أرى أنّ التطوّر واختلاف الأجناس أو أساليب الكتابة شعرا خاصّة لا يمكن أن يكون على أنقاض التّجارب السّابقة فمن لا يملك ماض لا يمكن أن يؤسس مستقبلاً ثريّاً ومميّزاً .. وعليه فشعر التفعيلة سيعيش مهما ابتعدت عنه الأقلام..فلنترك إذن القلم يمارس فعل الكتابة بحريّة، ويحلّق بنا معتمدا الجنس الذي يروق له ويجد نفسه فيه، من الغبن أن نعرقل الإبداع بصراعات بيزنطيّة لا تقدّم ولا تؤخّر .. فلنفتح المجال أمام الأصوات لتغرّد كما يحلو لها ولندع الشّعر يتولّى الكلام نثراً كان أم تفعيلة ونترك النّقاد تحكم، ففي الاختلاف دائماً ثراء وإضافة، وما أحوجنا للكلمة الثّائرة على كلّ القوالب أدبية كانت أم سياسية أم اجتماعيّة!تونس العربية لا الفرنسية ^ هناك رأي مفاده أن دول المغرب العربي -وبسبب من اللّهجة التي لا يفهمها جيدا أهل الخليج- لا تحتفي باللغة العربية والتراث العربي كما هو شأن الدول العربية الأخرى. أعلم جيداً أن هذا الرأي خاطئ، وأرجو أن توضحي للقراء الكرام إسهامات تونس الخضراء في هذا المجال؟ وعلاقتك الخاصة باللغة العربية؟- كثيراً ما نحكم على بلدان المغرب العربي بأنّها دول مشدودة إلى الغرب أكثر وأنّها بعيدة عن لغة الضّاد، وأنّها لا تتقنها، وهذا رأي مغلوط، فمن ناحية لهجتنا في تونس نحن أقرب إلى الفصحى من عديد اللهجات الأخرى، ومنها اللهجة الخليجيّة، وأنصح من يُطلق مثل هذه الأحكام أن يقرأ التّاريخ جيّدا ويطّلع عن الأدب المغاربي عامّة، والتّونسي خاصّة،..فتونس التي أنجبت ابن خلدون المؤرخ ومؤسس نظرية علم الاجتماع الحديث وسبق بذلك الفيلسوف الفرنسي (أوغست كونت) وأنجبت أحمد بن أبي الضياف سياسي ومؤرخ وإصلاحي والطاهر الحداد نقابي ومؤلف ومنظر ساهم في تطوير المجتمع التونسي في بداية القرن العشرين، والأديب محمود المسعدي والشاعر أبو القاسم الشابي الذي خلده شعره وقاد الثّورات ..والأسماء عديدة وعديدة وكلّها نهلت من اللغة العربيّة، وتركت لنا إرثاً محترماً بين الأمم. فكيف لبلد أنجب كلّ هذه الأسماء أن يبتعد عن لغتنا العربيّة؟! هذه اللّغة التي أعشقها حدّ الهوس، وأنهل منها، وأمارسها بحبّ وأسعى جاهدة إلى ترك بصمة تخلّد تجربتي وتشرّف وطني ..لغتنا بحر لا حدود له ومعين لا ينضب، وما علينا إلاّ أن ننهل منه، وكفانا أحكاماً مسبقة فأمّتنا العربيّة تحتاج منّا أن نقترب أكثر ونتفاعل لنكون قوّة على الأقلّ ثقافيّا.. ما دمنا كلّنا أبناء شرعيون للغة الضّاد. الورق قيمة ملموسة * رغم نشاطك الملحوظ في المواقع الإلكترونية، رغبت زهور العربي في النشر الورقي وأصدرت مجموعتين، رغم إمكانات التوزيع الأقل.. فما مرجع ذلك؟- مهما كان نشاطنا غزيراً افتراضياً فسيبقى افتراضياً والواقع أبقى وأرسخ والكتاب الورقيّ بالنسبة لي قيمة ملموسة تتوج الكلمة التي يبقى مكانها الأسمى هو الكتاب، وأعلمك أنه سيصدر لي قريباً أربع مجاميع كتأكيد على أولويّة الكتاب الورقي بالنسبة لي برغم ما حققته لي الكتابة افتراضيّاً من انتشار واحتكاك بأبرز الأقلام والتعرّف بسهولة على الكثير من التّجارب لكن يبقى الأثر الورقي أهمّ بالنسبة لمن يمارس عناء الكتابة رغم معاناة التّوزيع التي جعلت العديد يعزف على النشر.. وهنا أدق ناقوس الخطر لعلّ وزارات الثقافة العربيّة عامّة والتونسيّة خاصة تغيّر سياستها القاتلة للكتاب الورقي وتهتم بهموم المبدع وتنتشل الإبداع ...تونس الثقافة ^ كيف يبدو المشهد الثقافي في تونس اليوم؟ نعيش في تونس انتعاشة ثقافيّة، رغم الظّروف التي تمرّ بها بلادنا، هناك إصرار من المبدعين في شتّى المجالات على مواصلة رسالاتهم التي يؤمنون بها، ورغم موجات الشدّ إلى الخلف، إلاّ أنّ المثقف التّونسي واع ويستبسل في الدّفاع عن حريّة الإبداع في الخضراء التي شبّت على الثقافة فلا يمكن أن تتراجع فيها هذه الثقافة مهما كانت العراقيل فللثّقافة رجال تحميها.الشابي يتوهج عطاءً^ لقد استحضرت الشعوب العربية في خضم الربيع العربي، شعر أبو القاسم الشابي «إذا الشعب يوماً... « فهل لايزال هذا الشاعر الخاص حاضراً ومهيمناً عليكن كشاعرات حتى اليوم أم أن مكانه أخلي لأسماء أخرى؟ - نعم كان بيت الشابي الشّهير سلاحاً وفتيلاً لكلّ ثورات الرّبيع العربي وربما نظلم الشّاعر لو توقّفنا عند هذا البيت ولم نتوغّل في شعره الثوري أكثر، زيادة على ذلك فهو شاعر الوجدان والرومانسية والطبيعة لذلك ستبقى أشعاره حيّة تنبض لأنّها تلامسنا في العمق وأرى أنّه يبقى حاضراً دائماً كمرجعيّة مع العديد من الأسماء الأخرى التي تفرض نفسها كدرويش ونزار وأدونيس ومظفّر ودنقل وسعدي يوسف ومنصف الوهايبي وسعاد الصباح ونازك والسيّاب والعديد من الأصوات الأخرى الحديثة ، فكلّها تجارب جديرة بأن نتعلّم منها..بلى نحن مبدعات ^ ولكن ماذا عنك وعن شاعرات جيلك.. هل تؤمنّ بقدرتكن على إضافة شيء يستوقف الأجيال المقبلة؟ - أرى في سؤالك تلميحاً خفيّاً وتشكيكاً في قلم «الأنثى» مع الاحتراز عن هذا التّصنيف الذي لا أؤمن به فالإبداع لا جنس له، وأنا كما بنات جنسي نحاول أن نتقمّص الكلمة ونمارسها ونضمّنها رسالة، وكلّ حسب أسلوبه وقناعاته وموهبته، ولكل حظّه بعد ذلك، والنّص الجيّد يفرض نفس وأنا متفائلة فهناك طفرات إبداع «نسائي» طفت في الساحات الثقافيّة العربيّة في الآونة الأخيرة تبشّر بخير...النثر قلق أكبر * لكن المراهنة على قصيدة النثر مراهنة خطيرة أليس كذلك؟ هل تعلم؟من السّهل جدّاً أن تكتب قصيدة التّفعيلة ولكن من الصّعب جدّاً أن تطوّع النثر ليكون قصيداً ويتقبّله القارئ ويخترق وجدانه..قصيد النثر له أسسه وقليل هم الشعراء الذين اخترقوا مجال الشّعر بقصيدة النّثر وأقنعوا بها حتّى المتشدّدين والمعترضين على التّجديد في الشعر وتطوير أساليب الكتابة، والأمر ليس جديداً فتاريخيّاً وجد هذا الصّراع بين أبي تمام والبحتري وغيرهما لكن صراعهم لم يفسد ودّهم بل تعايشوا مع بعضهم وكان الفيصل بينهم هو الإبداع والإقناع بالنّصوص ولم يركنوا للمشاحنات والخصومات التي تعرقل ولا تضيف.النثر الإلكتروني خدمني * وجدناك تثنين كثيراً على النشر الإلكتروني.. هل يعني ذلك أنك لا تجدين أية مساوئ له؟! معروف مثلاً أن كتاباً كباراً عانوا الكثير حتى قبلت دور النشر نشر أعمالهم؟!- بلى وأعيد الثناء على المواقع الافتراضيّة التي قدّمت لي الكثير والتي عرّفتني بأكاديميين وشعراء كبار وأدباء تعلّمت منهم الكثير، وأعترف بجميلهم ولولا هذه المواقع الافتراضيّة ما كنت لألتقي بأغلبهم، خاصّة وأنا لا أملك غير الكلمة وسيلة أشقّ بها دربي، هذا لا يعني أنّ هذه المواقع ليست لها مساوئ فقط أنا أحبّ أن أعترف بالجانب الإيجابي الذي خدم العديد من الأقلام المهمّشة، أمّا عن دور النّشر، فلم تعد تلك التي تدقّق وتختار وتضع شروطا لتقبل عملاً ما من كاتب ما، لأنها أصبحت أغلبها ذات صبغة تجارية ربحيّة تلهث وراء المادّة أينما وجدتها ولا تهتم كثيراً بالنّص...البحرين تتألق ثقافة* هل أنت متابعة للمشهد الثقافي البحريني، هل هناك من كتابنا وشعرائنا من يحوز على إعجابك؟ - بما أنّني أعتنق الكلمة قراءة وكتابة فمن الضّروري أن ألمّ بالمشهد الثّقافي العربي، والثقافة البحرينية جزء من هذا المشهد..لذلك لدي خلفية عامّة... وإيجابية حولها، فأن تكون المنامة عاصمة للثقافة 2012 ليس اعتباطياً، بل كان تتويجاً لنشاط ثقافي كبير ولعلّ وزارة الثقافة البحرينيّة رائدة في اهتمامها بالكتاب وتسهيل الطبع الورقي، وهو الهاجس الذي يؤرّق كل المبدعين مما شجّع الكاتب البحريني على الإنتاج وكثرت الأنشطة الأدبيّة وبمتابعتي ألاحظ أنّ هناك أصواتاً شعريّة وقصصيّة جديرة بالاهتمام وشأنها شأن أبناء جيلها من الكتّاب العرب تحتاج إلى العناية من طرف النقّاد لترتقي بنتاجاتها ومن الأسْماء التي أقرأ لها دائماً الشاعر علي الشّرقاوي وهو صديقي والشاعرة خلديّة آل خليفة. زهور العربي: شاعرة وكاتبة تونسية، عضو اتحاد الكتاب التونسيين، عضو اتحاد الكتاب التونسيين مكلفة بالإعلام، مدير تحرير مجلة عاشقة الصحراء الإلكترونية، نائب مدير وكالة عرار مكلفة بشؤون الأديبات والشاعرات والمثقفات العربيات، عضو هيئة تحرير جريدة اليوم الإلكترونية التونسية، عضو بالعديد من الرابطات والاتحادات الأدبية العربية. أصدرت: امرأة من زمن الحب، عربيّة وأفتخر، إلى جانب أربع مجاميع قيد الطّبع وتصدر قريبا مصحوبة بسي دي لكل مجموعة: يا أنت...رومنسي مترجم للفرنسيّة، صهيل الرّوح، بريسكا، علّم الإنسان.«انعتـــــــــاق» وجع يقتاتني...ويسكبني في القصيد وجعا...وجعْ، دموع وقحة، أخاتلها،تعرّيني وتنهمر،جسد غضّ صلبوه على وتد من حجر، يتقاذفه غباء الجهات الأربع،أجنحة دجّنها قلب،عن ريش الحرام يأبى أن ينفصل، لحن تعزفه ربابة غريبة بلا وتر، صوت يذبحه الصّدى، على ربوة الحبّ، يعوي نذير الجدب، تدقّ نواقيس... السّفر،سفر،إلى المجهول،قاربه بلا أشرعه،على موج يتيم ينتظر،آهات، تتأجّج في جوف المنارات،تدوّي في صدري... تنتشر، ضربات..في المقتل، تمدّ مخالبها باردة، تخنق كرزا على الشّفاه.. يحتضر،يموت الحمام على السّجّادة، فوق القباب تغيب الشّمس في كفّ الصّباح، وتضيع منها البوصلة آه،يا ريش الحرام.. لم تنتصر،خلعتُ أسمالك، ما عاد مهدك النّاعم.. لحلمي الطّليق يتّسع،سفر على أجنحة الرّفض...آت صرخة ،تفجّر رحم السّبات،مركبتي غيمة عامرة،زرعتني أجنحة... في رحم السّماء السّابعة. السرس 13/8/2012 من مجموعة «بريسكا»