بكيتك كما لم أبكِ أبي، بكيتيك لا رهبة من الموت؛ فقد تعرفت عليه مبكراً حين أخذ أبي مني بلا مقدمات وأنا في الثانية عشرة من عمري ومات بين يدي وشهدت تشهده وخروج روحه، هكذا إذاً.. يختفي أحبتنا؟! هكذا بلا سبب وبلا تمهيد وبلا تهيئة؟بعدها لم يعد للموت رهبة عندي، لكن موتك يا سيما شيئاً آخر، موتك أسقط أسلحتي وجدار المنعة عندي بعد أربعين عاماً من التعامل الهادئ مع الموت، جاء موتك ليهز كياني، فبكيتك لأنك أنت، بكيتك لأنني أعرف ما لا يعرفه الناس عنك وأعرف لم سخر الله لك هذه الميتة.لم أكن أعلم صباح الإثنين التاسع عشر من مارس حين طلب الأطباء منا البحث عن متبرعين للدم أن تلك كانت الوسيلة الوحيدة لتتحدث البحرين كلها عن سيما عبدالله البستكي.أصبت بنزيف غريب لم يعرف له الأطباء مثيلاً صباح ذلك اليوم وتوقف قلبك 20 دقيقة وتم إنعاشك، جرى ذلك كله في نصف ساعة أو أقل، في حالتك كان ممكن إعلان حالة الوفاة تلك اللحظة؛ أي في الساعة السادسة صباحاً، لكنك قاومت وبقيت حية لاثنتي عشرة ساعة أخرى كانت كافية كي تعرف البحرين اسم سيما عبدالله البستكي، حين كتبت على التويتر أننا بحاجة للدم لم يكن طلب التبرع بالدم إلا سبباً سخره الله لك كي يجعل المولى ألوفاً مؤلفة من البشر تدعو لك وتترحم عليك منذ صباح الإثنين إلى هذه اللحظة.نجحت يا سيما في جعل البحرين جسداً واحداً تداعت أجزاؤه كلها لشكوى جزء منه، فمن هي سيما عبدالله البستكي التي تداعيتم لها؟ من هي هذه البنت التي أصبحت ابنة كل أم بحرينية وأخت كل فتاة بحرينية وأماً لكل طفل بحريني؟ من هي سيما التي امتلأت أروقة المستشفى العسكري من متبرعين بالدم لها، حتى قيل لنا إنها المرة الثانية فقط في تاريخ البحرين التي يتداعى هذا العدد من المتبرعين بالدم للمستشفى، الأولى كانت حين سقطت الطائرة وهذه هي المرة الثانية؟من هي سيما التي أتت لها العجوز على الكرسي المتحرك وأتت لها الجموع بالباصات لا فرادى راغبة بالتبرع، أتى لها المدنيون والعسكريون؟ من هي التي وصلت قصتها إلى كل دول الخليج وأتى لها متبرعون من المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية لا يعرفونها.سؤال سأله صاحب مطبعة؛ من هي سيما هذه التي وصلت قائمة طلبات طباعة الأدعية لها وتسجيلات القرآن في ثوابها أكثر من طاقة المطبعة لمدة أسبوع؟من هي هذه التي يتداعى لها الدعاء عبر القنوات الفضائية وإذاعات القرآن ويدعى لها في مساجد تبوك في المملكة، ويسأل عنها أهل العراق ويجمع أطفال مدرستها التبرعات ليحفروا لها بئراً للماء باسمها في أفريقيا؟من هي هذه التي عاشت البحرين كلها لحظاتها الأخيرة لحظة بلحظة وصرخوا الآه معنا حين صرخناها ألماً على فجيعتنا حين نقل لنا الأطباء نهاية محاولاتهم التي استمرت على مدى اثنتي عشرة ساعة خبر انتقالها إلى بارئها.فمن هذه هي تلك التي أبكتكم وتألمتم لفراقها وأنتم لا تعرفونها؟ من هي هذه الفتاة التي قدمتم لها دماءكم؟ من حقكم أن تعرفوا من هي هذه التي أحببتموها دون أن تلتقوها.إنها سيما ابنة التاسعة والعشرين لكنها “ماما سيما” الأم لأكثر من 18 فتى من فتيان دار الأيتام بدأت ترعاهم منذ عشر سنوات ورافقتهم في مراحل عمرهم حتى سموها “ماما سيما”.سيما اليتيمة التي فقدت حنان الأب مبكراً لم تمسح دمعة يتمها إلا بعد أن مسحتها عن أيتام آخرين، عرفت أن حاجة هؤلاء اليتامى لم تكن مزيداً من الهدايا واللعب بل هي العائلة وحنان الأب والأم، فشاركتهم أفراحهم واهتماماتهم وأحزانهم وهمومهم وأبقت على اتصالها معهم حتى بعد أن تزوجت رغم عدم وجود الفارق الكبير بين عمرها وأعمار بعضهم.تعرف أعيادهم وتعرف نجاحاتهم وتعرف إبداعات بعضهم، عرفتهم على زوجها في أول أيام زواجهما حين قالت له بعد أن اصطحبتهم معه لإحدى المطاعم أقدم لك أبنائي الـ18 وأريدك أن تكون لهم أباً.سيما اليتيمة التي أرادت ان تبر والدها الذي لا تتذكره جيداً والتي اقترضت لتكمل دراستها لضيق ذات اليد، اعتمرت عنه أول زواجها، ودفعت لمن يحج عنه، وختمت له القرآن عدداً لا يحصى، وبحثت عن موقع دفنه ودفعت لمقاول كي يبني له شاهداً يعرف قبره.سيما البارة بوالدتها وبأختها وبأخيها أطلقوا عليها (رجل البيت) حين كان أخوها صغيراً رغم أنها ليست الكبرى، فهي من قضت حوائجهم ودافعت عنهم حين اشتد بهم الحال، سيما التي من صغرها لم تحتفظ (بعياديها) ومنحتها للمحتاجين. سيما الزوجة التي عرفت كيف تحب وكيف ترعى وكيف تغدق من حنانها وحبها على زوجها حتى فاض علينا نحن أسرتها الثانية، فلم نعرف أهي زوجة ابننا أم هي ابنتنا؟سيما التي تسميها والدتي “صديقتي” لطول بال معها، ولحديثها الطويل معها ولاتصالها الهاتفي المشترك اليومي الذي يملأه الضحك معها رغم فارق السن بينهما، لكنها سيما التي تجد دائماً قواسم مشتركة مع كل البشر.سيما ابنة البحرين التي تركت مقر عملها في أحد البنوك يوم نادت البحرين تبحث عن مدرسات للتطوع، وحين قالوا لها ليس لديك إجازات وقد نتخذ إجراءات تأديبية في حقك، قالت افعلوا ما شئتم لا يهم إن أردتم فصلي من العمل افصلوني فلن أتراجع، وذهبت وتطوعت للتدريس، فأخجلت من في البنك وقالوا لها لست بأكرم منا استمري وأكملي ما بدأت ولن نخصم منك فالبحرين تحتاجنا جميعاً.إنه غيض من فيضها هذا الذي ذكرت، فشهادتي فيها مجروحة، فلا عجب.. لا عجب إن سخر الله لك كل هذه الألسن تلهج بالدعاء لك وتتبرع لك ثم تأتي لجنازتك وتطلب لك الرحمة، وتتوالى الصدقات الجاريات باسمك من مجموعات أغلبها لم يرك في يوم من الأيام، لكنك ودون مقدمات أصبحت ابنتهم وأختهم وصديقتهم وأمهم.نجحت في جمع الأضداد والفرقاء وأذبت الحواجز، فتذكرت رسالتك الأخيرة على البلاك بيري تقولين لي بعد الحلقة الأخيرة في التلفزيون إن أفضل نجاح لهذه الحلقة أنها أجبرت المغردين على ترك السب والشتم بين الفرقاء واستبدلوها كلهم بالحديث عن المال العام، فأوجدت قاسماً مشتركاً بينهم، فأجبتك أن ملاحظتك هي أفضل ما وصلني من تعليقات، فها أنت تجمعين الضدين مرة أخرى في التعزيات التي وصلتنا.أحبك الله يا سيما فاختار لك خاتمة هي من الحسن ما يجعل الآخرين يحسدونك عليها، دعاء صالح من أيتام مسحتِ دمعتهم، وأطفال تكلفينهم من خارج البحرين، وأم راضية عنك، وألف أخ وأخت لك ينافسون أفنان وعبدالرحمن في حبك، ويدعون لك في الغيب ويحفرون آباراً للمياه باسمك ويجرون لك الصدقات الجاريات.. أحبك الله يا سيما فحبب فيك خلقه.. اللهم ارحمها وارض عنها فكل من عرفها راض عنها ويدعو لها.اللهم صبر ابني على فراقها وصبر مشعل ابنها على فراقها، وصبر أمها على فراقها وصبرنا جميعاً أحبتها على فراقها.والشكر كله يقف عاجزاً أمام من تبرع بدمائه وأمام الأطباء والممرضين في مستشفى قوة الدفاع، الذين بذلوا قصارى جهدهم، والشكر لكل الأحبة الذين امتلأت بهم أروقة المستشفى، والأحبة الذين ملأوا فضاء وسائل التواصل الاجتماعي (تويتر والفيس بوك وغيرهم).الشكر لمن أتى وواسانا بحضوره من كل أفراد الأسرة الخليفية الكريمة ومن كل الأصدقاء والأهل والأحبة والجيران.. الشكر لمن وقف معنا ومسح دمعتنا، الشكر لمن آزر فواز وواساه في مصابه وكانوا له أخوة يتدافعون للتخفيف عنه.أمها وأختها وأخيها وزوجها وابنها وعائلتها كلهم يدعون لكم ولو قدر لهم لشكروكم فرداً فرداً. أما عني فينعقد اللسان وتجف الأقلام عاجزة عن رد هذا الينبوع الذي تفجر حباً، ولكم مني مثله وأكثر، والله يشهد أن في قلبي متسع لهذا الحب وأكثر، ولكل فرد منكم مكانة عندي.سيما.. أحبك أكثر وأكثر فقد بينت لنا معدن أهل البحرين.
سيما عبدالله البستكي
15 أبريل 2012