كتب ـ أمين صالح:في عام 1930 حقق المخرج الإسباني لويس بونويل فيلمه الثاني «العصر الذهبي»، وعرض الفيلم في باريس وسط احتجاج صاخب من قبل عصابات الفاشيين والكاثوليك.وهاجمت العصابات العرض بإلقاء الروائح النتنة في الصالة، والاعتداء على الحضور، وتلطيخ الشاشة بالحبر الأرجواني، وتخريب المقاعد، وقطع خطوط الهاتف، وتمزيق لوحات دالي وإرنست ومان راي وميرو وتانغي المعلقة في ردهة الصالة.. كما هاجمته الصحف اليمينية، قبل أن يتدخل البوليس ويمنع الفيلم رسمياً من العرض بتهمة معاداة الكنيسة ومحتواه الجنسي، وصادرت كل نسخ الفيلم.. أما بونويل فكان حينها في أمريكا التي منعت عرض الفيلم تجارياً مدة خمسين سنة.الفيلم ذو طبيعة ملهبة، مهيجة، متوهجة، وصادمة.. يقول بونويل «حققنا الفيلم بروح حية ونشطة.. كنا شباناً، وسخرنا من كل شيء النظام، المؤسسات، العائلة، وحتى الكنيسة».«العصر الذهبي» من الأفلام الناطقة الأولى في تاريخ السينما، يفتتح الفيلم بشريط وثائقي وجيز عن العقارب وصراعها من أجل البقاء، وهو انعكاس للوضع البشري في صراعهم ونضالهم، ثم نتابع قصة عاشقين، رجل وامرأة، كل محاولة لهما للاتصال الجنسي تتعرض لإعاقة، للإجهاض.. التنويع المتواصل لهذه الثيمة شكلت أساس الفيلم. العاشقان يدافعان عن علاقتهما بشن الحرب على المجتمع.. أسلحتهما اللامبالاة، الازدراء، الكراهية، والسخرية.. وبونويل يطرح هذا بمنظور سوريالي يتسم بالهجاء والدعابة، وشارك سلفادور دالي بونويل في كتابة السيناريو.وقال الناقد أدو كيرو في كتابه عن بونويل الصادر في نيويورك 1953 «هو فيلم استوعب كل التقاليد السينمائية، وتحدث بلغة الفيلم الحقيقية.. فتحت السينما آفاقاً واسعة وعميقة، ورسخ جريفيث وإيزنشتاين وقلة من المخرجين قواعد التصوير السينمائي.. لكن بونويل نسى كل القواعد والقوانين، وقدّم تصويراً سينمائياً عظيماً للحب المجنون. (..) لفعل ذلك ألغى كل التخوم، محققاً الثورة السينمائية (..) من خلال تكرار الصور.. هو يصون وحدة الحلم والواقع». بعد عامين عاد بونويل إلى إسبانيا وحقق الفيلم الوثائقي «لاس هوردس» 1932 ومدته 27 دقيقة، وهو عمله الوثائقي الوحيد، وعرض في أمريكا تحت عنوان «أرض بلا خبز». ويقول بونويل عن الفيلم «هو عمل وثائقي صرف بسيط وموضوعي.. موضوعي جداً.. لم أخترع شيئاً.. بيير يونيك كتب نصاً علمياً، إحصائياً، ونحن كنا نرغب فحسب في تصوير أحد أكثر الأقاليم فقراً في إسبانيا».في هذا الإقليم الجبلي، النائي، القريب من البرتغال، الذي يدعى لاس هوردس، عاش بونويل أربعة أشهر، وخلال شهرين صوّر مظاهر البؤس والشقاء والمرض والجوع والظلم والحرمان والموت، صور الحياة الصعبة والقاسية التي كان يعيشها سكان القرى هناك.الموت في هذا الفيلم، هو الثيمة الأساسية.. في نهاية الفيلم تقول المرأة العجوز «من أجل أن تبقى يقظاً، ليس هناك أفضل من التفكير باستمرار في الموت».من خلال هذه الصور الأليمة، البشعة، المخيفة، أراد بونويل أن يوجه نقداً ضارياً للدولة التي لا تكترث بشعبها، ولكنيسة تغذي الخرافة وتكرّس الشعائر البدائية. يقول بونويل «بعد أن حققت (أرض بلا خبز)، لم أعد أرغب في صنع أفلام بفضل عائلتي، كان لدي ما يكفي لأعيش، لكنني شعرت بالخجل من وضعي كعاطل، لذا عملت لمدة سنتين من 1933 إلى 1935 مع شركة بارامونت في باريس، في قسم الدبلجة، ثم مع شركة وارنر التي أرسلتني إلى أسبانيا في 1935 للإشراف على أعمالها ذات الإنتاج المشترك، وهناك دبلجت أيضاً عدداً من الأفلام، بعدها بدأت في إنتاج بعض الأفلام بالاشتراك مع صديق لي يدعى ريكاردو أورجويتي، أنتجت أربعة أفلام عادية وغير مهمة على الإطلاق، حتى أني لا أستطيع تذكّر عناوينها».ويضيف «قتذاك اندلعت الحرب الأهلية الأسبانية، وظننت أن ذلك يعني نهاية العالم، وأنه يتعين علي أن أجد شيئاً أفضل أفعله بدلاً من صنع الأفلام.. أوقفت كل نشاطاتي السينمائية ووضعت نفسي تحت تصرف الحكومة الجمهورية في مواجهة الفاشيين.. تعاونت مع الجمهوريين، وعملت في قسم البريد، ثم كمسؤول للإعلام في السفارة الأسبانية في باريس».ويتابع «في 1938 أرسلوني إلى هوليوود في مهمة دبلوماسية للإشراف على فيلمين من المفروض تحقيقهما عن الجمهورية الإسبانية.. لكن انتهت الحرب، ووجدت نفسي هناك، منغرزاً في أمريكا بلا أصدقاء ولا عمل.. بعد فترة حصلت على وظيفة في متحف الفن الحديث رئيس قسم يضم حوالي عشرين شخصاً.. ظننت أني سأنجز أشياء عظيمة، لكن اتضح فيما بعد أنها مجرد وظيفة بيروقراطية.. كنت مسؤولاً عن النسخ الأسبانية المرسلة إلى أمريكا اللاتينية.. بقيت هناك أربع سنوات.. في العام 1942 أجبروني على تقديم استقالتي بعد أن اكتشفوا أني مخرج فيلم (العصر الذهبي)».ويواصل سرد سيرته «رفضت إجراء مقابلات مع صحافيين جاؤوا لرؤيتي.. كنت يائساً وكئيباً، لم تكن لدي مدخرات، وقضيت الأسابيع القليلة التالية في حالة فظيعة، بعد فترة وافق فيلق الهندسة الأمريكية على تعييني معلقاً على النسخ الإسبانية من الأفلام التي كان يحققها الجيش الأمريكي».ويقول «الولايات المتحدة في الثلاثينات والأربعينات كانت مختلفة جداً، الناس كانوا لطفاء، صادقين، ودقيقين في مراعاة المواعيد بشكل لا يُصدق.. كانت هناك أيضاً وسائل الراحة الفخمة.. لكن فجأة حدث خلل ما.. البراءة صارت جبارة.. والبراءة الحاكمة تعني خطراً قائماً على الجهل.. الولايات المتحدة أصبحت دولة يحكمها بيروقراطيون ميالون إلى الشك، عدوانيون، وشوفينيون».