تحكم العلاقات الدولية المعاصرة مجموعة من المبادئ المتوافق عليها عالمياً سواءً عبر اتفاقيات ثنائية أو جماعية أو أعراف دولية، وتمثل هذه المبادئ أطراً عامة للسياسة الخارجية للعديد من بلدان العالم بعد أن تبنت مثل هذه المبادئ. وفي ضوء ذلك من المهم تسليط الضوء على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى لمعرفة لماذا لا يحق للدول الأخرى التدخل في شؤون الآخرين؟بعد تجربة عصبة الأمم (النسخة الأولى لأول منظمة دولية في العالم) التي تأسست في العام 1919 واستمرت حتى العام 1946 أدركت دول العالم ضرورة ترسيخ مجموعة من المبادئ التي تحفظ الأمن والاستقرار بعد فشل أول تجربة لتجمع دولي معني بحفظ السلم والأمن الدوليين. وشكلت مثل هذه المبادئ أولوية للقائمين على تأسيس هيئة الأمم المتحدة في العام 1945، حيث صارت من المبادئ الأساسية في ميثاق الأمم المتحدة في مادته الثانية - الفقرة السابعة. أيضاً نص ميثاق جامعة الدول العربية على نفس المبدأ (المادة الثامنة) والتي نصت على: «أن تحترم كل دولة من الدول المشاركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقاً من حقوق تلك الدولة، وتتعهد بألا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها». استمر الاهتمام الدولي بتأكيد مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول حتى الستينيات من القرن العشرين عندما أصدرت الجمعية العامة بالأمم المتحدة التوصية رقم (2131) في 21 ديسمبر 1965، وكان عنوانها «عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وحماية استقلالها وسيادتها»، ونصت على تحريم كل أشكال التدخل، والامتناع عن السماح أو مساعدة أو تمويل كافة النشاطات المسلحة والإرهابية لتغيير الحكم في دولة أخرى. كذلك أصدرت الجمعية العامة بالمنظمة الدولية إعلان مبادئ القانون الدولي في 24 أكتوبر 1970، ونص على «ليس لدولة أو مجموعة من الدول الحق في التدخل المباشر أو غير المباشر ولأي سبب كان في الشؤون الداخلية أو الخارجية لدولة أخرى. ونتيجة لذلك اعتبار ليس فقط التدخل العسكري بل أيضاً كل أنواع التدخل أو التهديد الموجه ضد مكوناتها السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية مخالفاً للقانون الدولي». في ظل هذا الاهتمام الكبير من قبل حكومات دول العالم بتقنين مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلي للدول، ما هو المبرر لكل هذا الاهتمام؟ وهل يستحق هذا المبدأ إقراره في العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية؟ بالطبع يستحق، لأن كل دولة تقوم سيادتها على استقلاليتها، وقدرتها على فرض سلطتها على أراضيها دون أن تشاركها فيها أطراف أخرى خارجية. وبالتالي فإن التدخل في الشؤون الداخلية للدول يعني انتهاك وانتقاص مثل هذه السيادة واعتداء على استقلالية الدولة. ومتى ما عجزت الدولة عن مواجهة التدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية فإنها تكون عاجزة وناقصة السيادة، وغير قادرة على حماية استقلالها ككيان موجود بين الكيانات المختلفة في العالم. إذا كان هذا هو المبرر للاهتمام الدولي والتطور التاريخي للمبدأ نفسه، فما المقصود بالتدخل في الشؤون الداخلية؟ يقصد بالتدخل في الشؤون الداخلية بأنه تتعرض دولة أو منظمة دولية لشؤون دولة أخرى دون أن يكون لهذا التعرض سند قانوني، والهدف منه هو إلزام الدولة التي تم التدخل فيها باتباع سياسة معينة في شؤونها الداخلية، وأيضاً يهدف التدخل إلى تقييد حرية الدولة والاعتداء على السيادة والاستقلال فيها. من هنا فإن مبدأ عدم التدخل يضمن للدول حمايتها من الضغوطات الخارجية بمختلف أشكالها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يتيح المجال لتعزيز أمنها واستقرارها. ومن ثم ينعكس بشكل إيجابي على حفظ الأمن والسلم الدوليين.منذ العام 1991 وسقوط الاتحاد السوفييتي، وبروز النظام الدولي الجديد الذي تهيمن على تفاعلاته الولايات المتحدة الأمريكية، أثير جدل واسع بشأن جدوى مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى بسبب تزايد ترابط العالم من خلال شبكات الاتصالات الإلكترونية والتي تطورت لما وصلت عليه الآن من شبكات التواصل الاجتماعي، وتزايد أدوار مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني الدولية. فضلاً عن قوة التنظيم الدولي والمقصود به المنظمات الإقليمية والدولية التي صارت تتدخل في شؤون الدول لتحقيق أهداف معينة بات من الصعوبة بمكان الالتزام بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وهو ما جعل هذا المبدأ موضع تشكيك ومحل اختبار لمصداقيته.