كتب ـ أمين صالح: اعتبر كثير من النقاد فيلم «في مديح الحب» للمخرج الفرنسي الشهير جان لوك جودار تحفة فنية، بعد أن حققها وهو في السبعين، وحاز الفيلم جائزة مهرجان فينيسيا.جزء من الفيلم صور بالأسود والأبيض وبكاميرا 35 ملم، وهذا الجزء يتمحور حول نقاشات بين مبدع العمل والممولين، عن مشروع فني، مبهم لكن طموح، يقدمه مخرج سينمائي، أدغار «برونو بوتزولو» عن مراحل الحب.إدغار رجل جاد، محبط، عدواني إلى حدٍ ما، يعيش وحده، ويكرس نفسه لعمله، يشتغل على مشروع سينمائي يتناول أربع حالات للحب في مراحل مختلفة، تبدأ باللقاء، مروراً بالرغبة ثم الانفصال، وتنتهي بالمصالحة أو التسوية.. من خلال العلاقة بين الرجل والمرأة في مراحل عمرية مختلفة «الشباب، النضوج، الكهولة».إدغار يجد صعوبة في اختيار ممثلين لفيلمه، يجري مقابلات مع ممثلين وممثلات ويختار منهم من يعتقد أنه سيكون مناسباً للأدوار، ومع هؤلاء يتحاور حول الحب، الإخفاق، الدين، المقاومة، التاريخ، الذاكرة، البلوغ.يقول جودار «أتمنى هنا أن نتأمل كل أشكال الحب.. الحب بين الرجل والمرأة، حب فرنسا، حب الأشياء».المرة الأولى بعد عشرين سنة يصور جودار مدينة باريس في فيلم، يعرض المدينة وقـــد اجتاحتها الصناعة، وغزت أسواقها الثقافة الأمريكيـــــــــة، ويشبهها جودار بأسفنجة تمتص ثقافات البلدان الأخرى وتتركها خاوية، ويقـــول «فــي الثقافــــــة الأمريكية لا يوجد حيز للمصداقية أو الدقة التاريخية».عندما يعجز إدغار عن إيجاد ممثلين مناسبين للأدوار، ينهار المشروع، ويبتعد إدغار، ويدرك أخيراً عجزه عن الإبداع مع فتاة من الطبقة العاملة، كان يعرفها قبل سنوات. القسم الثاني من الفيلم مصور بالألوان وبكاميرا فيديو ديجيتال، الأحداث تدور قبل القسم الأول بعامين، الماضي يتبع الحاضر لأنه يمثل ذاكرة صانع الفيلم، هنا نرى إدغار يلتقي بالفتاة ذاتها في مزرعة كانت مسكناً لجديها، وهما في ضائقة مالية، ممثلو شركة إنتاج سينمائية من هوليوود، يتفاوضون معهما لشراء حقوق قصة حياتهما، عندما كانا أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا منخرطين في صفوف المقاومة الفرنسية.الذاكرة هنا تعمل كطاقة مشاركة في اختراع الواقع الراهن.. «لا يمكن أن تكون هناك أية مقاومة بلا ذاكرة» كما يقولون في الفيلم.. الذاكرة عند جودار دوماً مركبة، غير مباشرة، وكلية الوجود. بهذا الفيلم يعبر جودار عن حبه العميق للسينما، قبل أن ينتهي الفيلم، يجعل بطلته تقرأ فقرات من كتاب روبير بريسون «ملاحظات عن السينما» والمتعلقة بوظيفة المخرج.يقول جودار رداً على سؤال عن سبب تصويره النصف الثاني من الفيلم بكاميرا الفيديو «من أجل خلق تباين مع مادة الفيلم الخام بالأسود والأبيـــــــض.. صورته في حالة غيــــر احترافية، وهذا لم يكن مصدر قلق أو انزعاج، لأنه كان إلى حد ما أشبه بالفيلم المنزلي.. سواء صورناه بكاميرا فيديو أو 35 ملم، فإن عدد العاملين، وهم أربعة أو خمسة، كان كافياً.. الدقة البالغة نجمت عن البناء، وهو الذي خلق التباين».هذا التباين، في الزمن «الماضي والحاضر» والأمكنة، يمنح بنية إجمالية لما يمكن أن يبدو لأول وهلة مجموعة مشوشة من الحكايات والحكم والقصص القصيرة جداً.. الفيلم صعب، مكثف، متداخل في مادته. عن الفروقات بين الكاميرا السينمائية وكاميرا الفيديو، يقول جودار «مع كاميرا 16 ملم أو 35 ملم، ثمة صرامة أو دقة معينة، واقع أن البكرة تدوم عشر دقائق، يجعلك تفكر فيه ككابح وقيد، مع كاميرا الفيديو لا تعود هناك أي حاجة لذلك، ولا تعود هناك أي صرامة، وتحسب أنك قادر على فعل أي شيء، أنت تظن أن الكاميرا هي التي تقرر، لكن من يقف وراء الكاميرا ينبغي أن يكون أفضل بكثير».في المؤتمر الصحافي الذي عقد بعد عرض الفيلم في مهرجان كان سأله صحافي «لماذا لا نجدك تلمح في أفلامك إلى الإيميل أو الإنترنت؟»رد «هل تعني الكلام عن الإيميل في أفلامي؟.. أنا لست الشخص المؤهل للإجابة عن هذا السؤال.. لا أزال أستعمل الآلة الكاتبة القديمة جداً.. اشتريت 12 آلة من نفس الموديل، وهذا العدد يكفيني حتى نهاية العمر.. اخترعوا الآلة الكاتبة للأشخاص العميان، وهذا ما أحتاجه بالضبط.. أما فيما يتعلق بالإنترنت، فلا أستطيع الإجابة، أنا لا أستخدم الإنترنت».ورداً على سؤال حول سبب هجومه على ستيفن سبيلبرغ لتناوله تاريخ الإبادة الجماعية أو المحرقة في المعسكرات النازية، حسب أحداث فيلمه «قائمة شندلر» قال جودار «أنا لم ألتق به قط، لا أعرفه، ولست مولعاً بأفلامه.. وانتقدته ذات مرة عندما أعاد بناء معسكر أوشفيتز النازي.. كفنان وسينمائي شعرت أن من واجبي أن أشجب ما فعله».وعند سؤاله «لماذا لا يحب أفلام سبيلبرغ؟» أجاب «يطول شرح ذلك، لكني لم أعد أستمتع بإطلاق التعليقات النقدية على أفلام الماضي في أعمالي.. أعرض علي فيلماً في صالة العرض، عندئذ أطرح تعليقاتي».عن سؤال بشأن استخدامه لاقتباسات أو استشهادات أدبية في أفلامه.. قال «أحب أن أتصفح الكتب والروايات.. أحياناً تستوقفني جملة ما وتخترق مخيلتي، أدونها في دفتر الملاحظات، وأعود إليها لأرى إن كانت تناسب الموقف». وحول امتناع شخصيات فيلمه عن الابتسام رد «أعتقد أن هناك الكثير من المفارقات والابتسامات حتى لو لم تبتسم الشخصيات.. فيلمي لا يحكي قصة حب بين رجل وامرأة في بيئة تقع في كاليفورنيا».عن التحولات في أفلامه وحياته قال «ما أكثر شيء تغير في سينماي؟.. أود أن أقول كل شيء.. أعرف نفسي بشكل أفضل قليلاً.. شخصية إدغار في فيلمي تمثل رجلاً يحاول أن يكون إنساناً بالغاً، هو ليس أنا.. لا يشبهني، احتجت إلى وقت كي أكبر وأنضج وأصير بالغاً.. ظننت أني سأحقق فيلمي الأول وأنا في الخامسة والعشرين، مثل أورسون ويلز، غير أني بدأت العمل وأنا في الثلاثين.. احتجت إلى ثلاثين أو أربعين سنة، حتى أجد التوازن بين حياة فيلمي والحياة الحقيقية».