إعداد ـ إبراهيم راشد الدوسري:ذاكرة الأغنية البحرينية والخليجية عامرة بأعلام أوقدوا مشاعل الغناء والموسيقى الحديثة، ومهدوا الطريق لأجيال لاحقة لتتصدر واجهة المشتغلين بالفن والطرب الأصيل، والمطرب الراحل محمد زويد هو أحد الأعلام وصاحب الجذوة. بدأ زويد مشواره الفني في ثلاثينات القرن الماضي ومن العراق تحديداً، ليصبح بعدها سفيراً للأغنية البحرينية إلى دول الخليج والهند ومصر وغيرها من بلدان العالم.غنى زويد خلال نصف قرن من مشواره الفني نحو 300 أغنية، تنوعت بين المقامات والبستة والسامري والخماري، وأبرز ما تميز به هو فن أداء الصوت.المطرب الشهير فريد الأطرش قال عنه «في صوته غنة محببة»، وفي الكويت تعرف على عمالقة الفن العربي أمثال بليغ حمدي ومحمد الموجي وقبلها في مصر على كرام محمود. الدرب الشاقولد محمد زويد عام 1900 في حالة بوماهر بالمحرق، تلقى تعليمه الأول على يد معلم القرآن سيد علي، لينتقل بعدها إلى مرحلة جديدة من الحياة الشاقة، حيث ركب سفن الغوص مع أهل منطقته، وكان آنذاك في الخامسة عشرة من عمره حيث عمل في البداية تباباً ثم غيصاً.صوت زويد الشجي منذ بدايات النشأة الأولى أهله ليصبح نهاماً، ثم ترك العمل في صيد اللؤلؤ بعد أن زاوله لفترة قصيرة، بعدها انشغل بالغناء والطرب، وصادف في هذه الفترة بدء النشاط الفكري وانفتاح الخليج على العالم الخارجي، إلى جانب ظهور أجهزة «الجرامافون» وأسطوانات الأغاني العربية وخاصة أغاني سيد درويش في مصر والأغاني العراقية، وبروز فئة مثقفة في المجتمع البحريني بالتزامن مع بروز مجموعة من الشعراء والفنانين الخليجيين.كان محمد زويد من المترددين على دار المطرب محمد بن فارس «دار البصرة» القريبة من منزله في «داعوس بمبي»، كان يرتادها لسماع الغناء والتدرب على عزف العود والتتلمذ على يدي أستاذ الغناء محمد بن فارس نظير قضاء لوازمه.النجم الصاعدعندما تمكن الفنان محمد زويد من عزف وغناء التراث البحريني، اعتبره المطرب محمد بن فارس فناناً مميزاً يستحق أن يشاركه الغناء في داره. وكان يدعى أيضاً لإحياء السهرات الفنية الخاصة وحفلات الزواج لقاء أجور بسيطة فكان زويد يلبي تلك الدعوات بنفس راضية، وبعد أن ذاع صيته أصبح يدعى للغناء في مجالس علية القوم. في عام 1929 رشح محمد بن فارس الفنان الصاعد محمد زويد بدلاً عنه لتسجيل أولى أغنياته في العراق، عن طريق شركة «بيضا فون»، وهي شركة ألمانية يملكها بطرس وجبران بيضا، حيث كانت تزور بغداد والخليج العربي وتتحرى عن المقرئين والمطربين لتسجيل المقامات والأغاني لقاء أجور مدفوعة، وكان وكلاؤها في البحرين آنذاك عبدالحسين الساعاتي وأخواه إبراهيم وإسماعيل.انفتح الطريق أمام المطرب محمد زويد لتسجيل أغانيه، إلا أن هناك صعوبات كانت تواجه كافة الفنانين في الخليج، إذ كان السفر إلى العراق عن طريق الباخرة فقط، إلى جانب أنهم كانوا يمكثون في بغداد فترة طويلة لحين وصول آلات التسجيل من ألمانيا.مكث محمد زويد في بغداد 4 أشهر بسبب تأخر وصول آلات التسجيل من ألمانيا، وأفاد من مكوثه هناك في الاطلاع على الفن الغنائي العراقي ويتأثر بالألحان والأغاني والمقامات العراقية ويغنيها، ومن الأصوات التي سجلها زويد في ذاك العام صوت «نعيش بذكراكم» و»ملكني قبل ما أملك» و»سلام يازين».وبعد انتشار تلك الأسطوانات ذاع صيته في أرجاء البحرين ودول الخليج عامة، باعتباره أول مطرب بحريني تسجل أغانيه على أسطوانات. بزوغ موهبةبعد تجربة العراق الفنية، ظل زويد يترقب فرصة أخرى للسفر إلى بغداد وتسجيل أغانٍ جديدة، إلى أن واتته الفرصة الثانية عام 1936، حيث سجل 40 أغنيه دفعة واحدة، ما زاد شهرته بين الناس وشجعه على الاستمرار في مشواره الفني والسفر إلى الهند بعدها لتسجيل أغانيه لدى شركة «أوديون الهندية».وفي عام 1941 عندما افتتحت إذاعة التلغراف التي أنشأها الإنجليز إبان الحرب العالمية الثانية، كانت أغاني المطرب محمد زويد ومحمد بن فارس وعدد من المطربين الشعبيين تذاع على الهواء مباشرة باستمرار حيث يتناوب فيها المطربون الغناء كل مساء. وكان المطربون البحرينيون من الصاعدين آنذاك ينتظرون بفارغ الصبر أن يأتي المساء لسماع هذه الأغاني، وكانت السبب في تنمية مواهبهم الفنية أمثال عبدالله سالم بوشيخة وعلي خالد ويوسف فوني وأحمد وعلي خالد وآخرون. زويد ويوسف عمرانوالتقى محمد زويد في العام ذاته 1941 يوسف العمران عاشق الشعر، المغرم بالأصوات وغناء القصائد العربية في «دار لخضاري» بالمحرق مركز زويد الرئيس.ونظم العمران عدداً من القصائد الوطنية غنى زويد بعضها في الأعياد والمناسبات الوطنية للبحرين ودول الخليج العربية، وكان زويد يختار أغانيه من القصائد العربية الفصيحة بمساعدة يوسف العمران من دواوين الشعراء أمثال المتنبي وبهاء الدين زهير وأبوالفراس الحمداني وغيرهم إلى جانب القصائد اليمنية. وواصل زويد مشواره الفني في دور المطرب الشعبي في الجلسات الخاصة وحفلات الزواج أو متنقلاً من بلد لآخر لتسجيل أسطواناته، إلى أن وصلت آلات تسجيل الأسطوانات إلى البحرين عام 1946، واختصرت الطريق أمام زويد فأصبح يسجل أغانيه في البحرين.وفي عام 1947 انتقل المطرب محمد بن فارس إلى جوار ربه، فاضطر زويد إلى استئجار داره «دار البصرة» كي تظل عامرة بعد وفاته إلى جانب دار «الخضاري»، فاجتمع فيها المغنون وعشاق الطرب والهواة من تلاميذ المطرب محمد زويد الذي كان متأثراً بأسلوب محمد بن فارس في الغناء. وبعد رحيل محمد بن فارس والمطرب وضاحي بن وليد المتوفى عام 1941، أصبح زويد من أشهر المطربين في الخليج العربي عامة.يغرد بالإذاعةفي الخمسينات زاد نشاط زويد وتنقله بين دول الخليج تلبية لدعوات المعجبين، حيث غنى في المناسبات الوطنية والحفلات الخاصة والعامة، وساعدت إذاعة البحرين التي انطلقت عام 1955 في انتشار أغانيه على أوسع نطاق، فضلاً عن تطور آلات التسجيل بحيث أصبحت الأسطوانات أصغر حجماً وأكثر جودة، وازدادت شركات إنتاج الأسطوانات ومحلات بيعها في البحرين وكافة دول الخليج. كان عشق محمد زويد للغناء والطرب دافعاً له للاستمرار والعطاء لذلك لم يكتف بالتسجيل في البحرين، فقرر السفر إلى القاهرة عام 1957 بصحبه صديقه يوسف العمران لتسجيل مجموعة أغان في إذاعة صوت العرب.وفي القاهرة التقى زويد لأول مرة بالمطرب المصري كارم محمود صديق يوسف العمران، وسرعان ما توطدت العلاقة الفنية بينهما وكانا يشتركان معاً في إحياء السهرات الفنية.نشأت علاقة ودية بين زويد والمطرب الراحل فريد الأطرش، في إحدى سفراته إلى بيروت بصحبة صديقه يوسف العمران في سهرة أقامها أحد الأمراء الخليجيين، وغنى زويد أثناء السهرة عدداً من الأصوات والأغاني فأعجب فريد الأطرش بصوته وقال مادحاً «في صوت زويد غنة لطيفة». وتعتبر أعوام الستينات قمة التألق الفني بالنسبة للفنان محمد زويد، حيث انطلق صوته عبر الإذاعات الخليجية التي افتتحت في هذه الفترة وخصصت بعض إذاعات الخليج لزويد منذ تلك الفترة وصلات غنائية طويلة يوم الجمعة من كل أسبوع، تقديراً لريادته وتميزه في أداء فن الصوت ومحافظته على خصوصيته وأصالته. كان النشاط الفني مزدهراً في البحرين منذ أواخر الخمسينات، خاصة بعد أن أنشأت فرقه أسرة هواة الفن الموسيقية، وشارك المطرب الشعبي الكبير محمد زويد في العديد من الحفلات التي أحيتها الفرقة في مناطق البحرين المختلفة.مناسبات الخليج بصوت زويدمن أهم الحفلات التي شارك في إحيائها المطرب محمد زويد في بداية الستينات وزادت من شهرته، إحياء احتفالات دولة الكويت بمناسبة استقلالها عام 1961، فسجل لإذاعة الكويت بهذه المناسبة أغنيته الشهيرة «مقام جسد ناحل وقلب جريح وصوت لمع البرق اليماني». وفي تلك الحفلة التقى زويد بأحد التجار الكويتيين المولعين بالغناء ويدعى فاضل مقامس الذي استضافه في داره ودعاه إلى الإقامة فيها كلما زار الكويت. وفي دار مقامس تعرف زويد على الملحنين المصريين الكبيرين بليغ حمدي ومحمد الموجي والمطرب السعودي محمد عبده. واستعان زويد في فترة الستينات بعناصر من فرقة أسرة هواة الفن الموسيقية بقيادة الفنان أحمد الفردان، حيث شاركوه في جولاته الفنية بدول الخليج وبعض الدول العربية، حيث كان يستعين بآلتي القانون والكمان والإيقاعات في مصاحبته بالغناء.جلسات السمركثيرة هي جلسات السمر والحفلات التي أطرب فيها زويد بصوته الشجي الجماهير على امتداد الخليج العربي، ولكن أروع الحفلات تلك المصورة عبر تلفزيون البحرين منتصف السبعينات بمناسبة العيد الوطني. غنى زويد في تلك الحفلة بمصاحبة الفرقة الشعبية وآلتي القانون الكمان لأول مرة فن السامري والبستة والخماري، وغنى أيضاً أغنية وطنية من تأليف يوسف العمران.تنوعت أغاني زويد خلال مسيرته الفنية، إضافة إلى أدائه لمقامات لم يتمكن المطرب محمد بن فارس من تسجيلها ضمن أصواته، كما أدى زويد بتمكن واقتدار فن الصوت وبأسلوب في الأداء تميز به عن سابقيه بن فارس وضاحي بن وليد، وغنى الأغاني المصرية والعراقية والشامية ولكن بصورة محدودة ومن أشهر هذه الأغاني أغنيه «كو كو». ومن أشهر ضاربي إيقاع المرواس الذين صاحبوا زويد محمد عيسى علاية، قبل أن يصبح مطرباً شعبياً، والفنان راشد سند ومبارك سعد، أما أشهر عازفي الكمان فهما صالح عزرا وضيف الله وعلى آلة القانون الفنان أحمد الفردان.زويد مكرماًآخر حفل شارك فيه المطرب محمد زويد بمناسبة تكريمه من قبل وزارة الإعلام البحرينية تقديراً لشخصه ومشواره الفني الخصب واعترافاً بدوره الرائد في حفظ فن الصوت البحريني الأصيل ونشره عام 1978 في أستوديو 3 بتلفزيون البحرين، وتحت رعاية الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة وكيل وزارة الإعلام آنذاك.واحتفت به في هذه المناسبة العديد من المؤسسات الوطنية وقدمت له الهدايا التقديرية. وشارك في حفل التكريم عدد من المطربين الشعبيين ممن واكبوا المسيرة الفنية للمطرب محمد زويد وهم عبدالله سالم بوشيخة، علي خالد هجرس، عبدالله أحمد، يوسف فوني، جاسم العمران، الفنان يوسف قاسم، الشاعر عبدالرحمن رفيع وعدد من أبرز الفنانين الشعبيين منهم النهام سالم العلان، النهام أحمد بوطبنية، وسجلت الحفلة ووزعت على كافة تلفزيونات دول الخليج العربية حينها.ساعة الرحيلفي الخامس من يونيو عام 1982 انتقل المطرب محمد زويد إلى جوار ربه، وخسرت البحرين قامة من قاماتها الفنية الفريدة، ممن أغنوا الساحة الغنائية وأثروها. رحل الفارس والسفير، بعد أن أثرى الأغنية البحرينية والخليجية بالكثير من الأعمال الغنائية المعبرة عن أصالة الفن الخليجي وتحديداً في أدائه المميز لفن الصوت، الذي يعتبر زويد من أهم رواده والمساهمين في نشره وحفظه. غنى زويد خلال مسيرته الفنية الممتدة لعقود من الزمان أكثر من 300 أغنية بين مقام وصوت وبستة وسامري وخماري وغيرها، ومدة هذه الأغاني 25 ساعة تقريباً، فضلاً عن العديد من الأغاني التي سجلها للإذاعات والتلفزيونات الخليجية والعربية. ومن أشهر أغاني المطرب محمد زويد ظريف المحاسن وهم يحسدوني وياحمود ماشفت الخضر ومقام «وقفة أيها القمر نتشاكى» وصوت «لمع البرق اليماني» وأتهجرنا وأنت لنا حبيب.