كتب – جعفر الديري: ليس بإمكان أحد من الناس نسيان الماضي تماماً، حتى لو كان مؤلماً، فالنفس لا ترغب في تذكّر أيامه ولياليه. وفيما يفرّ البعض من الماضي كأنّما هو أسد يخشاه، يتذكره آخرون بابتسامة رضا ترتسم على وجوههم. الماضي يعني ذكريات لمواقف وأقوال مرّت مرور الكرام، فلم تترك أثراً، وأخرى حفرت آثارها في النفس فهي لا تبرح شاخصة أمام العين. ماذا يقول الناس بشأن الماضي؟ هل يرغبون في تذكره؟ هل يستفيدون منه؟ أم إنهم لا يرون فيه سوى مزيد من التعاسة تضاف إلى أيامهم المليئة بالحزن؟ لحظات لا غير يؤكد أحمد محمد أن الماضي شأنه شأن الحاضر مرهون بيد الله تعالى، وكذلك المستقبل. وبالتالي، فإن تفكير الإنسان فيه لا يقدّم ولا يؤخر بل إنه من السفه، «إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يغير قضاء الله تعالى حتى في الحاضر، فكيف يفكّر في ماض انتهى وولت أيامه»؟!.والماضي في عرف محمد مظلم، لا وجه له، شأن المستقبل، لذلك لا يرغب في تذكّره، بل يفضل أن يركّز تفكيره على الحاضر، لكي يعرف طريقه جيداً ولا يتعثر، خصوصاً أنه انتهى والإنسان لا يمتلك سوى اللحظة التي يعيشها. الطفولة فحسب ولا تجد أمينة علي، مبرراً للتفكير في الماضي، «اللهم إلا أن تكون ذكرى طيبة تشحذ الهمّة لفعل الخير». علي لا تؤمن بتأثير الماضي في الحاضر، لكنها تعتقد بتأثير المستقبل، «العلاقة وثيقة بين حاضر تعيشه ومستقبل تنظره من على سطح الحاضر»، لذلك تجد أن الحاضر هو حياة الإنسان، وليس الماضي ولا المستقبل. لكن علي أيضا لا تستطيع ألا تفكر في طفولتها الرائعة -بحسب وصفها- فهي جزء من الماضي، تشعر حين تتذكّرها بالسعادة، بل وترغب كثيراً في الحديث عنها مع صديقاتها «كانت طفولة خلواً من المسؤولية، كنا نلعب ونمرح دون رقيب أو حسيب. أتمنى لو بقيت طفلة، محمولة على أكفّ الراحة لا تعب ولا وجع رأس». استجابة سلبية ويعتقد عبدالنبي حسن أن طبيعة العلاقة بالماضي تحددها طبيعة الإنسان نفسه، «فإذا كان الإنسان واقعياً فلن يكترث كثيراً بالماضي، بل سينظر إلى ذلك نظرة دونية، أما إذا كان الإنسان رومانسياً حالماً، فإنه سيجد في الماضي ملاذاً آمناً من تعب الحاضر». حسن قارئ نهم ومثقف، وهو يذكر هنا أن عالم النفس «كارل يونغ» يقول إن «الفرد الذي يتعرض لصدمة قد يفقد توازنه لفترة ما، ثم قد يستجيب لها بنوعين من الاستجابة: الأُولى النكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسك به تعويضاً عن واقعه المر، فيصبح انطوائياً؛ والثانية، تقبل هذه الصدمة والاعتراف بها ثم محاولة التغلب عليها، فيكون في هذه الحالة انبساطياً». ذلك ما يذكره حسن، وهو شخصياً يرى أن التعلق بالماضي استجابة سلبية. وعاء المستقبلوترى فاطمة عبدالله وهي مثقفة وجامعية، أن «الماضي ضروري من أجل الحاضر، ومهما حاولنا أن لا نفكّر فيه فلن نستطيع». تذكر عبدالله أن فكرة الماضي ونظراً لأهميتها شغلت ولا تزال جميع الناس من أبسطهم إلى أعقدهم، وليس أدلّ على ذلك من أن الكثير من الأدباء والمفكرين تناولوها في كتاباتهم. «جان بول سارتر كتب مسرحية «لا جواب لأسئلة لاري»، تكتشف فيها أم البطل خطأها حين أخفت عن ابنها حقيقة من يكون أبوه، وأن قاعدة عدم النظر إلى الخلف أبداً، كانت خاطئة أيضاً، وقد دفعت ثمن خطئها حين ماتت بفعل معاناتها». تضيف عبدالله: «نحن إذن لا يمكننا أن نلغي جزءاً من حياتنا كما نهوى، ذكريات يستحضرها الذهن مهما جهدنا في إخفائها، لذلك فإن الأولى بنا أن نتقبل الماضي بأفراحه وأتراحه، ونتعايش معه ونستفيد منه خبرة ودراية بالحياة.