كتب ـ أمين صالح: إبراهام لينكولن، المحامي السابق، الذي علم نفسه بنفسه، الرئيس الأمريكي السادس عشر، ولد في 12 فبراير 1809، وقتل اغتيالاً في 15 أبريل 1865. تولى الرئاسة من سنة 1860 إلى سنة 1865، وفترته الرئاسية تزامنت مع نشوب الحرب الأهلية في الولايات الأمريكية لأسباب متنوعة، متشعبة الجوانب ومعقدة.هذه الشخصية المهمة والثرية لم تثر اهتمام منتجي هوليوود، أفلام قليلة تناولت شخصية لينكولن منذ أيام السينما الصامتة، من أبرزها فيلم غريفيث «ولادة أمة» 1915، وعدد من الأفلام الصامتة، وقدمها المخرج العظيم جون فورد في فيلمه «السيد لينكولن شاباً» 1939 مع هنري فوندا في دور لينكولن قبل أن يصير رئيساً. بعد ذلك مثل ريموند ماسي دور الرئيس في «البحث عن الغرب» 1962.. وحسبما يقول ستيفن سبيلبرغ «منذ 50 عاماً لم يكن هناك العديد من الأفلام عن لينكولن، أغلب الأفلام تناولت شخصيته من زاوية أنها صورة ثقافية وطنية نمطية».فيلم سبيلبرغ «لينكولن» 2012، كتب له السيناريو توني كوشنر، مستمداً مادته بشكل رئيس، من كتاب «فريق المتنافسين.. عبقرية إبراهام لينكولن السياسية» تأليف دوريس كيرنس جودوين، ومن كتب أخرى عديدة.إنه عبارة عن دراما سياسية مثيرة، تسبر العالم الذي عاش فيه لينكولن، وترسم صورة عريضة ودقيقة للآلية السياسية التي كانت تعمل وراء الحرب الأهلية.وتقدم لوحة شخصية سينمائية للرئيس لينكولن من مختلف جوانبها، انتصاراته، إخفاقاته، عظمته الغامرة، دون أن تغفل عن جوانب التوتر العائلي في بيت الرئيس. السيناريو يتجنب تقديم مادة تعليمية جافة، بإضفاء لحظات درامية حميمية ودافئة، ولحظات من الدعابة تخفف من وطأة الموضوع السياسي.أحداث فيلم «لينكولن» تدور في العام 1865، بعد أربع سنوات من حرب طاحنة، دامية، وحشية، خلفت آلاف القتلى والجرحى «أكثر من 600 ألف قتيل، وبعض المصادر تقدر القتلى بأكثر من 800 ألفاً»، بين الولايات الشمالية والجنوبية «المؤلفة من 11 ولاية انفصلت عن الاتحاد وكونت حكومتها أو دولتها المستقلة تحت مسمى الولايات الكونفدرالية الأمريكية».في النهاية أدركت هذه الولايات الجنوبية، أنها على شفا الهزيمة فأرسلت مبعوثيها للتفاوض مع القادة الشماليين ومع الإدارة الأمريكية، لكن الرئيس لينكولن «دانييل داي لويس»، الذي يباشر فترة رئاسته الثانية، يريد أن يؤجل التفاوض، حتى يتم تمرير التعديل 13 في مجلس النواب، وهو التعديل الذي يحرم الرق ويلغي العبودية بشكل نهائي وعلى نحو دائم في الولايات المتحدة، والذي يمثل نقطة تحول مهمة في مسار الديمقراطية والتحضر وحقوق الإنسان الأساسية. الرئيس يعرف جيداً أن التعديل لا يمكن تمريره إلا في فترة الحرب، ففي وقت السلم، ومع عودة الولايات الجنوبية «التي تعارض أي محاولة لإلغاء الرق» إلى الاتحاد، سوف يتم التصويت برفض التعديل، إن روح الأمة على المحك، هذا هو ما يدركه لينكولن بنظره الثاقب ووعيه الحاد.لكن المزاج العام للشعب الأمريكي وللسياسيين، يميل نحو إنهاء الحرب أكثر مما يميل إلى إنهاء العبودية، الحرب مدمرة على نحو شامل، الأمة منهكة جداً ولا تحتمل سقوط مزيد من القتلى والجرحى، لهذا نجد حتى من بين العاملين المتنفذين في إدارة الرئيس من ينصحه بإلغاء فكرة إعتاق العبيد أو تأجيلها، وتجنب مناقشة التعديل.وهو من جانبه، من أجل أن يحرز هدفه، وأن يفرض هذا القانون، يستخدم لينكولن أي وسيلة تكون تحت تصرفه الجدل، النقاش، الإقناع، الإكراه، التهديد، الرشوة، الحكايات الرمزية، إنه يتبنى هنا الموقف المكيافيلي «الغاية تبرر الوسيلة».في الواقع، هذا التعديل تم تمريره قبل عام، لكن كي يصبح قانوناً فلابد من تمريره من قبل مجلس النواب والموافقة عليه بأغلبية الأصوات. يلجأ الرئيس إلى المماطلة في التفاوض، من أجل كسب الوقت والأصوات لصالح التعديل، وفي سبيل ذلك، لا يكتفي بالمناورات السياسية، والمماطلة في محادثات السلام، بل يلجأ إلى المكر والخبث ومختلف أساليب الإغواء والرشوة والمكائد السياسية للحصول على العدد الكافي من أصوات الديمقراطيين لتمرير التعديل.إنه يحتجز ممثلي الجنوب في مكان سري حتى لا يتسرب نبأ المفاوضات ويؤثر ذلك على التصويت، خاصة أنه لا يواجه المعارضة فحسب بل حتى أفراد ضمن حكومته، وضمن حزبه الجمهوري، لا يروق لهم إلغاء العبودية.وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحزب الديمقراطي، في تلك السنوات، كان محافظاً ومؤيداً لسياسة الرق، بينما كان الحزب الجمهوري ليبرالياً وتقدمياً، ومع مرور الزمن تغيرت -إلى حد النقيض- توجهات الحزبين ومواقفهما ومنهاجهما السياسي.في موازاة هذه المشاغل السياسية وصراعاته مع أقطاب السياسة، ومحاولته إدارة دفة الحكم، بوعي وحكمة وصبر، في أشد الأوقات حلكة وتأزماً وخطورة، يعيش لينكولن صراعاً من نوع آخر وسط محيطه العائلي، فهناك زوجته المحبطة «سالي فيلد»، غير المستقرة نفسياً، المضطربة عاطفياً، المتقلبة المزاج.. نتيجة الصدمة العنيفة التي أحدثها الموت التراجيدي لابنهما البالغ من العمر 11 سنة.هي مثل زوجها، قادرة في حياتها العامة أن تموه شخصيتها المعقدة، الانفصامية تقريباً، وتقّنع عواطفها ومشاعرها، وتخفي حزنها الذي يعذبها عندما تكون وحدها، هي أمام الآخرين، المعارضين والمؤيدين معاً، تبدو صلبة، قوية، واثقة من نفسها، لكن كل هذا يتداعى عندما تكون وحيدة أو مع زوجها في البيت، فتظهر على حقيقتها حزينة، خائفة، ضعيفة، مضطربة ومتقلبة. إن أوجاعها العاطفية والجسمانية ترهق زوجها وتنهكه نفسياً، وتربكه ذهنياً، مع إنها في موازاة معاناتها العاطفية، واضطراب شخصيتها، تعمل بحزم وبقوة في دعم مواقف زوجها وتوبيخ خصومه «تاريخياً، بعد عشر سنوات من اغتيال لينكولن، أعلنت محكمة شيكاغو أن أرملة لينكولن، البالغة 56 سنة، والتي لم تستطع أن تتغلب على حزنها الشديد لوفاة ابنها، هي مختلة عقلياً، وحكمت بإيداعها مصحاً عقلياً». أما ابنه الأكبر روبرت «جوزيف جوردون ليفيت» فيرغب في ترك جامعة هارفارد للانضمام إلى الجيش الاتحادي والمشاركة في الحرب، أسوة بغيره من الشباب، هذه الرغبة التي يرفضها الأب بشدة، لكن بعد مواجهات حادة وعنيفة، يضطر لينكولن إلى الرضوخ لطلب ابنه العنيد، على أن يعين في مكتب الجنرال لا أن يشارك في الحرب كجندي. عبر هذه المواجهة نتعرف على جانب آخر ليس في صالح الرئيس الذي يخاف على ابنه لكن يحث آلاف الشبان على الانخراط دفاعاً عن الوطن والقيم والمبادئ، هنا نجد ملمحاً ريائياً في سلوك الرئيس الأب الذي يريد أن يحمي ابنه، لكنه يضحي بأبناء الآخرين.
لينكولن (1 - 2) الجانب الآخر لشخصية الرئيس
31 مارس 2013