إعداد ـ إبراهيم راشد الدوسري:عشق آلة العود، أخلص لها، وأخذ يتدرج من نغمة إلى نغمة ومن مقام إلى آخر حتى حطت موهبته الموسيقية في فناء معهد الموسيقى العربية بالقاهرة عام 1974، يدفعه الطموح أن يعود إلى وطنه البحرين، وهو يحمل زاداً من العلم والفن أو الفن مغموساً بالمعرفة الأكاديمية.الفنان الراحل راشد مبارك الصقر ودعنا في رحلة النور والنقاء والسلام في أكتوبر من العام 2005، وبرحيله فقدت الساحة الفنية والثقافية والموسيقية في البحرين أحد الكفاءات المهمة في مجال الموسيقى، وهذا اللقاء الحميم هو استحضار لروحه النقية وتوثيق لملامح سيرته العطرة وتجربته الفنية والثقافية والتربوية وأجريت اللقاء معه قبل وفاته.أين كانت النشأة الأولى والطفولة؟.أنا من مواليد الحد 1952 وتحديداً جنوب الحد حي رأس الماشية، كان البيت يحتضن 5 أسر، فكان الوالد وأسرته وعم الوالد حمد بن عبدالله الصقر وعمي خليفة بن مبارك الصقر، وكذلك ابن عم الوالد وأسرته عبدالله بن راشد الصقر وابن أخت الوالد عبدالرحمن وأسرته. وكان يقال إن عدد الأشخاص في بيتنا القديم بلغ 72 شخصاً، كانت في رمضان توزع 72 فطرة وكان البيت على الشاطئ مباشرة، وتقع صخور على ضفافه، ويقال إنها جلبت من قطر، وهذا ما قاله ابن عم الوالد محمد بن عبدالله الصقر المولود عام 1906 وتوفي عام 1999، وكان يعمل بعد تقاعده من وزارة التربية والتعليم صانعاً لنماذج السفن الشراعية في متحف البحرين الوطني.أين كان يعمل الوالد؟.كان الوالد يعمل غواصاً في سفن الغوص قديماً، وبعد ذلك عمل نجاراً في منطقة رحيمة بالمملكة العربية السعودية إلى أن استقر به المقام نجاراً في مطار البحرين الدولي.حزاوي الجدةكيف كان يبدو لك البيت الكبير حينما بدأت تعي ما حولك وأنت طفل؟.وعيت وأنا بين جدران البيت الكبير وكان عدد أفراد الأسرة كبيراً حيث كانوا يبلغون 30 فرداً، وأذكر أن الوالد كان ذا شخصية حازمة وشديدة، ولكنه لم يكن يضربنا، أما الوالدة فاطمة فكانت حنونة وطيبة، وكانت معنا في البيت جدتي أم الوالدة واسمها مريم، وكانت معلمة للقرآن الكريم. وكانت أيضاً تقرأ الموالد وتصحبني معها في المناسبات الدينية إلى بيوت الجيران، ورغم أنها كانت كبيرة في السن في حدود الثمانين من عمرها، كانت نشيطة وذات حيوية، وارتبطت بها حتى أني كنت أنام معها في «الكبر» الخاص بها وسط البيت، ودائماً كانت تقرأ القرآن الكريم.ولا أنسى صوتها الرخيم المميز فضلاً عن سرد الحكايات والحزاوي التي تخصني بها قبل النوم، واستفدت من جدتي كثيراً ومن خلالها تعرفت على تاريخ عائلتي والكثير من المعلومات عن مدينة الحد وغيرها من المعلومات الخاصة بالبحرين وتراثها الشعبي.رحلة التعليمكيف بدأت رحلتك مع التعليم؟.بدأت من مدرسة الحد الابتدائية الجنوبية، وأما في العطلة الصيفية فكنت أدرس القرآن عند «المطوعة» وتدعى عائشة البوغمار ودخلت المدرسة صغيراً بتشجيع من عمي الذي كان يعمل مدرساً لمادة الدين والأشغال في المدرسة، وكذلك عم والدتي الأستاذ الراحل يعقوب القوز، وكان يشغل مدير القسم الداخلي بوزارة التربية والتعليم آنذاك.انتقلت بعدها إلى مدرسة الحد الشمالية، وكان النشاط فيها أكثر حيوية بفضل جهود مدرس نشيط هو الأستاذ عبداللطيف جناحي، وأصبح بعدها مديراً للبنك الإسلامي وعضو مجلس الشورى. وكان يدرسنا اللغة العربية وكي يبسط لنا المادة يحول نص القراءة إلى مسرحية، فكان بهذا الأسلوب الشيق يشد الطلبة، فكنت معجباً به كثيراً وهذا ما جعلني أتميز في مادة اللغة العربية. وبفضل هذا التميز كان الأستاذ عبداللطيف يكلفني بقراءة كلمات الصباح في الطابور الصباحي، ما أوجد لدي الثقة في النفس وقدرة المواجهة وكان ذلك عام 1960.الموهبة الموسيقيةمتى برزت لديك الاهتمامات الفنية المتعلقة بالموسيقى؟.برز اهتمامي بالموسيقى مذ كنت في المرحلة الابتدائية، وهناك عوامل لهذا الاهتمام ومنها أني كنت حين أعود من المدرسة أمر بجانب مجلس عائلة المالود في الحد، حيث كان نفر من الشباب يجلسون عند الظهيرة في المجلس يعزفون على آلة العود، ويغنون ويضربون على الإيقاعات ومن تلك الأغاني الأصوات البحرينية والبستات.كانت تلك الأغاني الشعبية تشدني فأقف أنا وأقراني من الأطفال لنستمع إليها من خلف نافذة المجلس، وأحياناً كان الشباب من عائلة المالود يدخلونا لنشاهدهم وهم يغنون، ومن جانب آخر كان لي ابن عم أعزب يسكن معنا في البيت وكان يهوى الموسيقى وصنع له عوداً من علبة صفيح وأخذ يتدرب على العزف عليه، وبعد ذلك اشترى عوداً حقيقياً وكنت أشاهده وهو يحاول العزف عليه ولكنه كان شديد الخوف على عوده فكان يخفيه عني وعن أطفال العائلة.جهاز جرامافونألم يكن لديكم في البيت أجهزة استماع للأغاني في تلك الفترة؟.كان لدينا في البيت راديو كبير وكنا نستمع من خلاله إلى الأغاني وكانت جدتي أم الوالد تحب الاستماع إلى القرآن الكريم من الراديو خاصة قراءة الشيخ عبد الباسط عبدالصمد، وكان لدى ابن عمتي عبدالرحمن خبرة في التوصيلات الكهربائية، فمد سلكاً كهربائياً من الراديو إلى «كبر» جدتي ووضع سماعة كي تستمع من الراديو إلى صوت عبدالباسط عبدالصمد، ولكوني أقضي معظم أوقاتي في الليل مع جدتي، كنت أستمع أنا أيضاً لصوت عبدالباسط وأقلده في أسلوب ترتيل الآيات القرآنية، وأذكر أيضاً حينما كنت في مدرسة الحد الشمالية شاهدت الفنان محمد ياسين وهو يقدم المونولوجات الفكاهية في حفلات المدرسة.العزف على العودمتى بدأت محاولاتك في العزف على العود؟.كان ذلك في نهاية المرحلة الثانوية، وأذكر أننا حينها انتقلنا للسكن في المنطقة الشمالية من الحد، تعرفت على أصدقاء أعزاء كنا نجلس في «البرايح» المنتشرة في مدينة الحد الشمالية على الشاطئ تحديداً، وكانت للأصدقاء محاولاتهم في العزف على آلة العود ومن أولئك مبارك السند وأحد الإخوان يدعى خميس كانا يعطياني العود لأعزف عليه ويشجعاني على ذلك فضلاً عن أني كنت أضرب على الإيقاع حينما يعزف أحد الأصدقاء وكانت جلساتنا مستمرة كل مساء وكان ذلك عام 1965.العود أول آلة أمتلكهامتى اشتريت أول آلة موسيقى؟.اشتريت أول عود وأنا طالب من مصروفي الخاص الذي كنت أتقاضاه من عملي أثناء الإجازة الصيفية وكذلك اشتريت آلة أكورديون من محل القطان بالمنامة وفي هذه الفترة التقيت بيوسف عبدالرحيم وكان يهوى التمثيل والموسيقى، وكانت لديه آلة كمان، وتبادلت وإياه العزف على الآلات الموسيقية.لمن كنت تستمع من المطربين وبمن تأثرت؟.كنت أستمع لناظم الغزالي وكارم محمود وصباح وعبدالحليم حافظ وأم كلثوم وعبد الوهاب ورياض السنباطي، وبعد انتشار أفلام فريد الأطرش شدني صوته وأداؤه، فكنت أردد تلك الأغاني. بعدها تعرفت على أحمد هزيم وكان يعزف على آلة القانون والعود في فرقة أسرة هواة الفن الموسيقية، وكذلك فرقة الأنوار الموسيقية، بعد ذلك التقيت به حينما انتقلت مع الوالد إلى منزلنا في مدينة عيسى عام 1970 وبدأت أدرس العود على يد الفنان أحمد هزيم مع صديقي فريد محمد عباس جناحي.محاولات التلحينمتى بدأت التلحين؟بدأت التلحين أثناء الدراسة في معهد الموسيقى العربية في القاهرة وبدأت ألحن نصوصاً من كلمات الشاعر الغنائي عبد الله سلطان، ولحنت عدداً من الألحان واستمررت بعد ذلك منذ منتصف السبعينات.مسيرة حافلة بالعطاءبعد تكليفك من قبل وزارة التربية في إدارة التربية الموسيقية، ماذا قدمت في مجال تطوير المادة في مدارس البحرين؟.من التطورات التي حدثت في مجال التربية الموسيقية منذ الفترة التي أصبحت فيها موجهاً للتربية الموسيقية هي أن مادة التربية الموسيقية أصبحت موجودة في مائة مدرسة مقسمة بين البنين والبنات، ولدينا الآن مدرسون في مادة التربية الموسيقية 25% منهم بحرينيون، وأسهمت في وضع المناهج الخاصة بالتربية الموسيقية التي استفاد منها المدرسون والطلبة فضلاً عن إسهامي في وضع ألحان العديد من أوبريتات أعياد العلم التي تنظمها وزارة التربية والتعليم، وكذلك إسهاماتي في وضع ألحان للعديد من المسرحيات الخاصة بالأطفال والكبار في المدارس والمسارح الأهلية والقطاع الخاص.وشاركت في تأسيس فرقة البحرين للموسيقى التابعة لوزارة الإعلام عام 1996، وساهمت فيها كعازف لآلة العود التي تخصصت فيها لولا إبعادي عن الفرقة دون سبب وهذا ما آلمني، ولكني على كل حال أتمنى التوفيق للفرقة ولإخواني الفنانين فيها.ملاحظةفي الوقت الذي كان حلم الفنان الراحل راشد الصقر يتجسد على أرض الواقع حين أسهم في تأسيس فرقة البحرين للموسيقى، وهي أول فرقة رسمية للبحرين تابعة لوزارة الإعلام سابقاً والآن تتبع وزارة الثقافة، وبعد عدد من الحفلات الناجحة التي تألقت فيها الفرقة، فوجئ الراحل بإبعاده عن الفرقة دون مبرر مقنع مع عدد من أعضائها وأحدث القرار صدمة آلمته نفسياً، وكان لها تأثيرها الشديد في تدهور صحته الذي نتج عنه فشل كلوي، فكيف يبعد وهو العازف المتمكن في آلة العود التي قضى 5 سنوات من عمره يدرس فنونها وعلومها حتى تخرج بدرجة البكالوريوس تخصص آلة العود؟ فضلاً عن خبرته في مجال التربية الموسيقية وتجربته الفنية الثرية في العزف والتلحين.
راشد الصقر.. شعلة موسيقية أُريد لها أن تنطفئ
05 أبريل 2013