كما فشلت الأمم المتحدة في وضع تعريف للإرهاب أو مفهوم قريب من حدود التعريف يحظى بقبول دولي، أخفق المجتمع الدولي كذلك وعبر منظماته المتخصصة بما فيها الأمم المتحدة أيضاً بإيجاد معيار قانوني مقبول لمفهوم التدخل الخارجي، ولهذا بقي الأمر رهناً بالتفسيرات السياسية التي توظفه حسب مقتضيات الحال، بما يخدم مشروعاً أو عند التصدي لمشروع مضاد، وحينما تتداخل السياسة والقوانين، فمن العسير الخروج بفهم متقارب لمعنى التدخل الخارجي، ولكن هذا لا يمنع من طرح السؤال مجدداً بصيغة بديلة: متى يتسبب التدخل الخارجي بإثارة النزاعات الدولية؟ حتى يصار إلى اعتماد هذا المعيار أساساً لتعريف معنى التدخل. إجمالاً تعد المناطق الغنية بالثروات، من بين أكثر المناطق مغناطيسية، واستقداماً للتدخلات الخارجية أو إثارة الفتن الداخلية، والأزمات بين الدول المتجاورة، وفي أحيان كثيرة تتحول الأزمات التي تثيرها القوى الدولية الكبرى إلى أزمات مزمنة وعصية على الحل، ولعل منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، التي تعيش حالة استقطاب متعددة المحاور، بسبب ثرائها المثير لشهية الدول الأخرى البعيدة منها والقريبة، تمثل النموذج البارز على هذه الجاذبية، وتحاول قوتان هما إسرائيل وإيران التحكم بمصيرهما، من خلال التنسيق تارة ومن خلال التنافس في معظم الأحيان، وهذا ما يعكس استهانة الطرفين ومن يقف وراءهما بقدرة شعوب المنطقة على تحديد مستقبلها، والتحرر من منطق الوصاية الأجنبية، ولكن الدول عادة ما تجدد أساليب تدخلها في شؤون الدول الأخرى، كي تجنب نفسها احتمال الوقوع في خطأ القصد أو النتيجة. ربما يثير هذا الفهم الملتبس حول أشكال التدخل وأدواته تساؤلاً مشروعاً لدى المراقب، عما إذا كان هناك دور قديم لإيران، ثم أبدلته بدور جديد؟ وقد يكون هناك من يتساءل عما إذا كان هناك دور قديم أو جديد لإيران في العراق والمنطقة أصلاً؟ لأن هذا الفريق ينكر أي دور سلبي لإيران في العراق والمنطقة، بسبب التداخل في الخنادق بين قوى ظلت تنظر إلى إيران على أنها مركز توجيه وإرشاد أيديولوجي وسياسي. الهجوم خير وسيلة للدفاع لكن الجواب عن مثل هذه الحزمة من الأسئلة تكتنفه صعوبات جدية، بسبب زاوية النظر إليه على وفق موقف التيارات السياسية المختلفة ومدى قربها من المشروع الإيراني أو ابتعادها عنه، فما يعده فريق سياسي ذو نظرة وطنية، تدخلاً ودوراً إيرانياً غير مقبول في الشؤون الداخلية، يعدّه فريق آخر حالة طبيعية تماماً، بل ومطلوبة جداً من طرف آخر، انسجاماً مع الأجواء السياسية والأمنية الملبدة بكثير من الغيوم غير الماطرة، وبهدف الحفاظ على المكتسبات السياسية التي تم تحقيقها بجهود مشتركة وطويلة، من جانب الطرفين أي إيران والأحزاب المرتبطة بها، وبقدر تعلق الأمر بالأجواء الأمنية المشحونة، فعلى الرغم من أن الظواهر تقرأ تلويحاً باشتداد الضغوط على إيران، بسبب تحديها للمجتمع الدولي في ملفها النووي المثير للجدل، فإن اعتماد مبدأ الهجوم خير وسيلة للدفاع، يجسده عملاء إيران الذين لم يعد لديهم الوقت الكافي الذي يستحق صرفه لنفي ارتباطاتهم بإيران، بل أصبح ذلك محل مباهاة فاضحة كتقليد سياسي داخل المجتمعات العربية، ويبدو أن طهران حينما تطلق التصعيد في لغة الخطاب السياسي، لكي تطرح المعارضة البحرينية، على سبيل المثال، البرامج السياسية التي لم يكن ميسوراً طرحها قبلاً، تحاول من خلالها تأكيد ما كانت الزعامة الإيرانية طرحته في أوقات سابقة من أنها ستشعل المنطقة إن هي تعرضت (أي إيران) لأي هجوم أمريكي أو إسرائيلي على منشآتها النووية، فجاءت تصريحات قادة المعارضات العربية المحلية الموالية لإيران لتعطي هذا الانطباع، وبأنها لن تخفض سقف طلباتها بسبب الضغوط الدولية على إيران، بل على العكس من ذلك فإنها سترفع سقف تلك المطالب في حركة استعراض قوة، لا تعبر عن امتلاكها لقدرة حقيقية بقدر ما تعبر عن حالة هلع وفقدان أعصاب وانعدام وزن خرجت عن القدرة على التحكم والسيطرة، وبخاصة مع بدء صيف ساخن على أكثر من عاصمة شرق أوسطية ستقص من ريش أجنحة نظام الولي الفقيه. ربما يتمكن المراقب من رصد آلاف التدخلات الإيرانية في شؤون معظم الدول العربية، منذ سقوط شاه إيران السابق ووصول آية الله الخميني إلى الحكم، ليدشن حقبة القلق والتوتر التي خيمت فوق المنطقة العربية ويبدو أنها لا تريد أن تبارحها لسنوات طويلة أخرى ما لم تتخلص المنطقة من مثل هذا النظام المثير للتوترات. لماذا تنجح إيران في تدخلاتها بالوطن العربي؟ اللافت أن هناك من يمتلك الشجاعة الزائدة عن حدود اللياقة ليدافع عن تلك التدخلات، ويعدّها جزءاً من مكونات الانتماء المذهبي، المثبتة على نحو لوائح لتؤشر ممارسات التشيع السياسي الفارسي، الذي يطرح ثنائية التوجيه بحيث يأخذ قدسيته من خلال الفتاوى المتلبسة برداء الدين وجوهرها ذو بعد قومي لا لبس فيه، على الرغم من أن هناك جهات أخرى تنتمي إلى المذهب نفسه، ولكنها تقف بوضوح ضد محاولات سلب الهوية الوطنية وتذويبها بالهويات الفرعية، كالمذهبية على وجه الخصوص، لأنها تعي جيداً أن صراعات الهويات الثانوية داخل المجتمع الواحد هي الوصفة المثلى لتمزيقه وتحويله إلى روابط مصطنعة قابلة للانهيار عند أول منعطف أو مفترق طرق، ولكن سؤالاً ملحاً وقصيراً في صياغته ومهماً في مدلولاته، يبقى قائماً على مستوى الصحافة ومراكز الدراسات ومراكز صنع القرار في الوطن العربي، وهو: لماذا تحقق إيران بصفة مستمرة نجاحات كبيرة أو ملموسة عبر تدخلاتها في الشؤون الداخلية العربية على الرغم من وجود الحاجز القومي؟ ولا تستطيع الدول العربية على كثرة عددها ووفرة المال لديها ووجود أكثر من ملف يستوجب التدخل في إيران، ولكنها لا تفعل، هل يعكس ذلك احتراماً عربياً أحادي الجانب للالتزامات التي تفرضها القوانين والأعراف الدولية مع بلد لا يقيم لها وزناً؟ أم هي عفة لا مسوّغ لها؟ أم هو العجز بعينه من سلوك هذا الطريق وخشية من نتائجه عليها على المدى البعيد؟ بحكم الصفة النمطية التي طرحت عنها خارجياً حتى باتت صفة لازمة لها بعد أن صدّقتها، وهي أن النظام الرسمي العربي نظام زجاجي قابل للكسر من إلقاء أصغر حجر عليه. ثم أن للفتوى الدينية قوة إلزام عابرة للقوميات والقارات والحدود، تفوق في تأثيرها قوة الفعل السياسي قومياً ووطنياً، مهما بلغت قوة كاريزما القائد السياسي من تأثير مفترض، لم يتمكن جوزيف ستالين من فهم كنهها عندما جاءه خبر إعلان الفاتيكان الحرب على ألمانيا فسأل كم يبلغ عدد الفرق التي يمتلكها بابا الفاتيكان؟ ولكننا قد نجد أنفسنا إزاء حالة لا يمكن تجاوزها في الحديث عن قوة الفتوى الدينية وقدرتها على تجاوز الانتماء القومي وفرض نفسها بقوة الانتماء المذهبي على ما عداه من جدل الهويات وصراعها. من المعروف أن التركيبة السكانية في إيران هي تركيبة هشة ومجتمع ملفق إلى حد يستطيع المراقب رصده بسهولة تامة، بسبب التنوع المركّب عرقياً ودينياً ومذهبياً، ولكن السلطة القائمة التي تستمد قوتها من الفتوى الدينية المدعومة بالأجهزة الأمنية من حرس وتشكيلات أخرى ترتبط بالولي الفقيه مباشرة بصفته القائد العام للقوات المسلحة في تبادلية نادرة، استطاعت أن تفرض توجهاً وتحافظ عليه بحزمة عريضة من القوانين الحادة من الحريات. فمن جهة هناك تمايز قومي يجعل من القومية الفارسية التي تريد فرض موروثها الثقافي والحضاري على المجتمع الإيراني بكامله، وهي أكبر الأقليات المكونة للمجتمع الإيراني، وربما لا تزيد نسبتها في أحسن أحوالها على 35 بالمائة من سكان إيران، فهناك الترك والأكراد والبلوش والعرب، أما الجانب الآخر من صورة التركيبة السكانية في إيران، فيؤكده وجود ديانات مختلفة، فهناك الزرادشت وهم المجوس واليهود الذين ما زالوا يمارسون طقوسهم بحرية تفوق حرية أتباع المذاهب الإسلامية المضغوطة، وهناك المسيحيون من الأرمن والآثوريين، وداخل كل دين مذاهب متعددة، ولكن الحكم المطلق الذي تجسده نظرية ولاية الفقيه هو بيد القومية الفارسية التي تنتمي للمذهب الجعفري الإثني عشري أو تطرح نفسها بهذه الصفة، ومن مفارقات مشهد السيطرة المطلقة للفرس، أن علي خامنئي ينتمي بالأصل للقومية التركية، ورعا في عقد الثمانينيات من القرن الماضي احتفالية كبيرة نظمها المثقفون الترك في تبريز مركز محافظة أذربيجان الشرقية، وألقيتْ فيها كلمة للخميني حض فيها على تشجيع الأدباء الترك وتوفير سبل النشر أمامهم والتوسع في نشر الثقافة التركية، ومع أن الفكر الديني يطرح نفسه نقيضاً للفكر القومي، لاحظ من شاهد خامنئي في تلك الاحتفالية، مدى سعادته وإحساسه بالنصر لسماح (الإمام) الخميني للقومية الثانية في إيران من حيث عدد السكان، بممارسة شيء من حقوقها الثقافية، ويبدو أن خامنئي عدّ ذلك إنجازاً شخصياً له حققه لأبناء قومه الذين أوشكت الثورة الإسلامية على سحقهم باسم محاربة الفكر القومي، على حين أن العرب وهم أبناء الأمة التي نزل القرآن بلغتهم، وكتاب نهج البلاغة كُتب بحروف لغتهم، يعانون من ضغط لم تتعرض له الأغلبية السوداء في جنوب أفريقيا أيام الحكم العنصري. وبالعودة إلى طغيان قومية واحدة على القوميات الأخرى في مجتمع واحد تحت لافتة الدين أو المذهب، فهل هناك قوة إلزام واحدة أو متقاربة للفتوى الدينية في جميع المذاهب الإسلامية؟ على الرغم من أن الخوض في موضوعات كهذه قد يقود إلى متاهات ليس هنا مجال بحثها وليست هي الدافع وراء كتابة الموضوع، لكن يمكن القول من دون تردد إن الواقع يؤكد أن فتوى مرجع التقليد الشيعي لمقلديه تعد واجبة الاتباع، وقد تُخرِجُ من الملة من لم يطعها، على حين أن المذاهب الأربعة، لا تقليد فيها أصلاً وتبقى إطاعتها نابعة من قناعة ذاتية لا يمكن ممارسة الحجر عليها بأي حال، ربما يقود هذا إلى افتراض أن هناك حالة من الانقياد السلبي لدى المقلِد في المذهب الجعفري، وحالة من الانفلات الإيجابي لدى المكلف في المذاهب الأربعة من الضوابط الشرعية، أي عدم شعور السني بوجود شيء من القدسية للرمز الديني، ومن هذه النقطة بالذات يمكن أن نمسك برأس الخيط الذي يقودنا إلى معرفة واحد من أهم أسباب نجاح إيران في التدخل في الملفات العربية طالما كانت هناك أقليات شيعية مرتبطة بمرجع التقليد الذي تتبعه، أي الولي الفقيه، وهي على استعداد لتغليب الانتماء المذهبي على الانتماء القومي، خاصة وأن الولي الفقيه يمسك بسلطتين دينية ودنيوية في وقت واحد، وهذا ما لم يتحقق في أي وقت من الأوقات لا في إيران ولا في غيرها في النظم السياسية الحديثة. متى يتحكم العرب بملفات إيرانية داخلية؟ ويقابل ذلك عجز عربي ظاهر بوضوح للعيان، ومطلوب منه أن يتحرك على المكون العربي في إيران، وهو مكون منقسم على نفسه أفقياً وعمودياً، فهناك من ينتمي إلى المذهب الجعفري، وأتباع هذا المذهب، تغلب عندهم النزعة المذهبية على الانتماء القومي، وبالتالي فهم لا يصغون إلى النداءات الصادرة من الدول العربية مهما صفت دوافعها القومية، على الرغم من معاناتهم من اضطهادهم بسبب هويتهم العربية وتذويب هذه الهوية. أما من ينتمي إلى المذاهب الأربعة من العرب فهم، على وفق التوصيف السابق، لا يشعرون أن هناك مركزاً للتوجيه الديني يمكن أن يلزمهم بموقف ما قد يجلب لهم معاناة إضافية فوق ما يكابدون. أما القوميات الأخرى التي تعيش في إيران كالأكراد على سبيل الحصر، فإنهم يحملون فوق أكتافهم مشروعاً قومياً، يقتربون ممن يقدم لهم العون أو يبتعدون على قدر تطابقه مع رؤاهم القومية، ولم تكتسب الحركة الكردية في أي يوم من الأيام بعداً دينياً حتى في زعامة الملا مصطفى البارزاني الذي كان يحمل لقباً دينياً ولكنه ظل يوظفه في خدمة مشروعه القومي. أما البلوش فأنهم، مع ثقلهم السكاني ومع تململهم ضد الحكومة الإيرانية بسبب شعورهم باضطهاد قومي وديني، لا يقدمون إضافة نوعية إلى قدرة الدول العربية على التدخل في الشأن الداخلي الإيراني، بسبب القمع الذي فاق كل وصف تعرض له البلوش أنفسهم في مراحل مختلفة من عمر الدولة الإيرانية الحديثة، ومع ذلك فإن هناك تقاعساً واضحاً في دعم البلوش من جانب الدول العربية، كموقف دفاعي عن نفسها رداً على التدخل الإيراني في شؤونها الداخلية. ولكن إيران كانت، منذ قيام منظومات الدول في المنطقة، أكثر الأطراف قدرة على التدخل في شؤون الدول الأخرى وتحقق نتائج كبيرة من تلك التدخلات، على حين لم ينجح بلد عربي واحد وبصفة منتظمة أن يؤثر ولو جزئياً على المشهد الداخلي الإيراني، فهل هي عفة عربية متأصلة في النفوس؟ على حين أن العالم تخلى عن العفة في العلاقات الدولية منذ قرون طويلة، أم هو احترام قواعد القانون الدولي ومبادئ عدم التدخل في شؤون الغير والتي ظلت مجرد سلة زهور صناعية مركونة على أدراج مكاتب الأمم المتحدة، لا حياة فيها ولا عطر؟ لكن إيران تصور المواقف العربية على أنها خشية من قوتها الناعمة والنائمة، والتي يمكن أن تتحول وبلمسة سريعة من جهاز سيطرة عن بعد، إلى قوة فاعلة وخشنة إلى حدود بعيدة متى ما اقتضت المصالح الإمبراطورية العليا والتي وضعت على رأسها حجاباً إسلامياً فضفاضاً. تطرح على المستويات السياسة والدبلوماسية والإعلامية، أفكار فيها مبالغات خيالية عن قوة إيران، تريد عن طريق الردع ومن دون حروب ساخنة، تحقيق أهداف الحروب نفسها في ميادين القتال، فالحرب هي صراع إرادات، ومن يتمكن من فرض إرادته على الأطراف الأخرى من دون الحاجة لخوض حروب ساخنة، فقد نجح في ليْ أذرع الأطراف الأخرى في معادلة الصراع. فهل أن إيران تمتلك القوة الذاتية بالصفة التي تطرحها عن نفسها أو يفعل ذلك نيابة عنها من ربط مستقبله ومصيره بمشروعها الإقليمي؟ سواء في تهديداتها لدول المنطقة عن طريق تحريك الفتن الداخلية، أم في سلوكها المتمرد على المجتمع الدولي ومنظماته المتخصصة؟ أم أن قوتها مجرد وهم افتراضي تحرص على تمريره وتسويقه إعلامياً والتسليم به من غير دراسة لأدواته وآلياته؟ ماذا يحصل لو تعرضت إيران لضربة عسكرية؟ لإيران خلايا نائمة في معظم دول المنطقة، وهي تضيفها إلى رصيدها الاحتياطي الذي لا يمكن إغفاله عند البحث في موازين القوى المهيأة لخوض أية مواجهة محتملة، ولكن ما يبدو جلياً أن إيران هي التي تسوق لهذه الفكرة السوداوية، التي تريد من خلالها إخضاع العالم إلى منطق الابتزاز من طرف واحد، ومن هنا يمكن أن نفهم خلفيات الهلع الذي ينتاب السياسيين الرسميين وكذلك المحللين الاستراتيجيين على مستوى المنطقة، كلما ارتفعت وتيرة الحديث عن احتمال توجيه ضربة عسكرية لإيران بسبب برنامجها النووي، حتى بلغ الرعب حدوده القصوى عندما قيل بأن الضربة المقترحة ستؤدي إلى فوضى واضطراب سيعيد المنطقة عقود عدة إلى الوراء. فما هي قدرة إيران على إعادة المنطقة قرون عدة إلى الوراء في حال تعرضها لضربة خارجية؟ وما هي القوة الخرافية التي تمتلكها ولم يتمكن العالم من معرفة أسرارها حتى اليوم، ولا يستطيع تطويق آثارها؟ وهل ستفعل كل ذلك بنفسها أم أنها ستعتمد على التنظيمات الإرهابية المرتبطة بها مثل أجنحة حزب الله المنتشرة في لبنان والعراق والبحرين والجزيرة العربية؟ وإذا سلمنا بأن إيران تمتلك قوة تدمير بهذا الحجم المفترض، فهل أن دول المنطقة على هذا القدر من الضعف والعجز، عن مواجهة خطر دولة واحدة مثل إيران؟ ولماذا لم تتمكن ومن ترصين أوضاعها الداخلية، لتمنع الاستخفاف بها أو النظر إليها على أنها مجرد واجهات زجاجية قابلة للتهشم من عصف أول صاروخ يسقط قربها؟ غالب الظن أن هناك تغذية مقصودة لتفخيم حجم القوة الإيرانية وقدرتها على استيعاب الضربة الأولى، ومن ثم الانتقال السريع إلى حالة الهجوم المقابل، والبدء بتوجيه ضربات إلى عدد غير محدد من الدول، بما فيها البعيدة عنها نسبياً، وتشارك في هذه الخطة أطراف متباينة الرؤى للمشروع النووي الإيراني، الذي يشكل محوراً للموقف الدولي من إيران، إلا أن وجهة النظر الإقليمية لا تتعلق فقط بالمخاوف من امتلاك إيران للسلاح النووي والتلويح به ضدها في عملية ابتزاز إيرانية معروفة التفاصيل، وإنما هناك التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية لمنطقة الخليج العربي، وتحريك الملف الطائفي من أجل إعطاء الزعامة الإيرانية فرصة التحكم بالقرار السياسي المحلي، على وفق ما يخدم مشروع التوسع الذي تأكدت أخطاره، حينما تمكنت ولاية الفقيه من التحكم بشؤون العراق بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، وإذا ما سلمنا بأن إيران قادرة على فعل كل هذا، فإن ذلك لا بد أن يدعونا إلى تساؤل مهم، وهو لماذا على الدول العربية أن تعاقب بضربة إيرانية مقابلة على ضربة أمريكية أو إسرائيلية، لم يكن للعرب ضلع فيها أو دور بها؟ وهل يصح ذلك مع مبادئ العدل التي لا تسمح بمثل هذا السلوك الذي يتنافى أصلاً مع واحد من مبادئ الإسلام التي تؤكد على مفهوم (ولا تزر وازرة وزر أخرى)؟ ألا يُنظر إلى ذلك على أن إيران أخذت عدداً جديداً من الرهائن ولكنهم هذه المرة من الدول وليس من الأفراد، كما فعلت مع منتسبي السفارة الأمريكية في طهران عام 1979، وتريد استخدامهم دروعا بشرية لحماية نفسها من أخطار لا صلة لها بالمنطقة لا من حيث الاستحضارات أو الفعل اللاحق، ويمكن افتراض أن إيران تسعى لمعاقبة الآخرين على نواياهم إن تمكنت من ذلك، ولكن المؤشرات المؤكدة تذهب إلى أن إيران تتعمد على نحو مثير للإشفاق في إعطاء انطباع عن قوتها التي تجاوزت الحدود المسموح بها، وهي تفعل ذلك لإخافة شعوب المنطقة وتظن أنها بهذا كسبت نصف المعركة في أقل تقدير. ذروة الحرب الباردة في ذروة الحرب الباردة وحينما وصل التأزم بين موسكو وواشنطن الخط الأحمر، اتجهت فرنسا برئاسة الجنرال ديغول إلى خطوتين أثارتا الكثير من التكهنات وردود الفعل، الأولى انسحاب فرنسا من الجناح العسكري لحلف شمالي الأطلسي والثانية الاعتماد على النفس في قوة الردع النووي المستقل عن المظلة النووية الأمريكية لأوروبا، لأن ديغول قدّر أن رد الفعل الأمريكي في حال تعرض باريس لهجوم ذري سوفيتي لن يكون مماثلاً لرد الفعل الأمريكي فيما لو تعرضت نيويورك لضربة مماثلة مفترضة، وتجربة فرنسا يجب ألا تغيب عن ذهن المخطط الاستراتيجي العربي، في تقييم الخطط المواجهة لخطر الأسلحة النووية الإسرائيلية والإيرانية، كي لا يبقى الوطن العربي أسير وهم خاطئ يمكن أن يجر عليه كوارث تهدد أمنه القومي، فالقوة الذاتية هي وحدها التي توفر الحماية اللازمة للأمة من الأخطار الخارجية. إن محاولة المسؤولين والمحللين السياسيين غرس الرعب الجمعي، مما قد يلحق بالمنطقة فيما لو تعرضت إيران لعمل عسكري، تؤكد أن بعض الدول تجلد الذات بسياط الوهم والمبالغة بالقوة التي لم تزعمها حتى أمريكا لنفسها، فلا أحد يعرف متى وصلت إيران إلى هذا السقف العالي من القوة العسكرية والقدرة على استخدامها من غير ضوابط أخلاقية وقانونية. إن إيران ستمضي في برنامجها النووي بلا توقف ليس اعتماداً على قوتها الذاتية، وإنما لأنها نجحت عن طريق أعدائها في غرس حالة الهزيمة النفسية المبكرة، طالما أن الآخرين هم الذين يروجون لقوتها المتخيلة، وتأثير ما يتركه ذلك من تراجع شامل، ولعل التهديد الإيراني بإغلاق مضيق هرمز هو أبرز الأسلحة التي تشهرها إيران بوجه دول المنطقة والعالم، وهذه ليست المرة الأولى التي تطرح الزعامة الإيرانية مثل هذا التهديد الساذج، ففي التاسع من سبتمبر 1985 استبعد السيد طارق عزيز وزير الخارجية العراقي حينذاك في مؤتمر صحافي عقده في بغداد أن تغلق إيران مضيق هرمز، ربما تذّكر التهديدات الإيرانية بإغلاق هذا المضيق، بالإنذارات الصينية لتايوان نهاية عقد الخمسينيات وبداية عقد الستينيات من القرن الماضي، والتي تجاوز رقمها الألف إنذار، وحينما تحولت تلك اللعبة إلى مزحة أضرت بالزعامة الشيوعية توقفت بكين عن إنذاراتها، ولم يعرف أحد لماذا وجهت أول إنذار وما هي جديتها فيه، ولماذا توقفت في نهاية المطاف عنها وماذا حققت من وراء ذلك كله؟