كتب ـ حسين التتان:محمد يوسف شاب في نهايات العقد الثالث من عمره، قبل أربعة أعوام تقدم لخطبة فتاة من محيط العائلة «من عظام الرقبة» كما يقولون، كان حينها مراسلاً في شركة صغيرة، براتب هزيل لا يتعدى 200 دينار، أهل الفتاة طلبوا مهراً يفوق طاقته، 4 آلاف دينار بالتمام والكمال، هذا عدا تكاليف الزواج، ولأن محمد قال ما يوحي إن المهر غالٍ ولا يقوى على تحمل تكاليفه، رمى والد العروس القنبلة بوجهه «مع السلامة».لم ييأس محمد ولم تفك الضربة الأولى عزيمته، أو توهن قواه، قال لنفسه «الدنيا لن تقف عند هذه الفتاة، ومن خلقها خلق أجمل منها»، جمع وقسم.. ضرب وطرح.. وضع قرشاً فوق قرش وجمع 3 آلاف دينار لا تنقص مليماً واحداً، وتقدم لخطب فتاة ثانية مرفوع الرأس عالي الهمة مزفوفاً بدعوات أمه وزغاريد أخواته البنات.هذه المرة لم تكن الأسرة هي العائق ولا الوالد نفسه، بل الفتاة عروس المستقبل دون سواها، وضعت العصي بالعجلات ورفعت سقف المطالب، وقالت «5 آلاف دينار بس المهر.. باقي التكاليف عالتياسير».عاد محمد إلى بيته كسيراً مهزوماً «ضربة عالراس ما شي.. ضربتين والله توجع»، ضرب محمد أخماساً بأسداس، قلب الموضوع يمنة ويسرة، «جاب من هني لهني» دون فائدة، أخيراً حزم أمره وقرر مكاشفة الفتاة علها ترضى بإنقاص قيمة المهر ولو قليلاً.عندما عرض عليها 3 آلاف دينار صمتت ولم تجب، أدرك من صمتها المطبق كم المبلغ ضئيل تافه، ولأنه ارتاح لمواصفاتها كزوجة وأم مستقبلية لأطفاله لم ييأس، حاول مراراً وتكراراً أن يقنعها بالعدول عن رأيها، صدع رأسها وهو يحكي لها كم يحبها، وأن الحب يخلق المعجزات ولكن الفتاة «أذن من طين وأخرى من عجين»، حسمت أمرها وقررت غسل يديها من الموضوع برمته.انهزم محمد أمام قهر الواقع وضرباته الموجعة، سلم أمره لله رمى أسلحته واستسلم، موضوع الزواج بات نسياً منسياً «إن شاء الله من اليوم وطالع أسمع حدا يجيب سيرة الجيزة بس»، لزم الجميع الصمت بما فيهم أمه وأبوه وأخوته، وانتظروا فرج الله ومنوا النفس أن يكون قريباً. نسي محمد موضوع الزواج وقرر إكمال تعليمه العالي، صرف المبلغ المدخر مهراً لـ»حسناء الجبل» على أقساط الجامعة والكراسات والملخصات والمحاضر، وهو اليوم على وشك التخرج من الجامعة بشهادة «قد الدنيا»، ويحلم أن يحظى عما قريب بوظيفة محترمة وراتب مجزٍ وسيارة فارهة وعروس لم ترَ الحارة مثيلها حسناً وجمالاً.عادت سيرة الزواج تدغدغ أحلام محمد، الفاتنات يزرنه أفواجاً أفواجاً، هو لا يريد أن يسلك طريقاً منحرفاً سعياً وراء شهوات الجسد، بل يحلم بامرأة تملأ عليه حياته، تناجيه ويناجيها، تلاعبه ويلاعبها، يتقاسمان رغيف الخبز المغمس بالعرق، ينجبان دستة كاملة من الأطفال، شأنه شأن جده الأول، أي دنيا وأي نعيم!ولأن خطط محمد بالفوز بفتاة مستورة يأسر قلبها وتقبل به زوجاً باءت كلها بالفشل، أصبح أكثر حساسية تجاه القضايا الاجتماعية، صار أكبر منظر بالحارة حول حال الفتيات العوانس، بل وضع نظرية متكاملة عن أسباب العنوسة ونتائجها وسبل القضاء عليها «غلاء المهور أصل الداء».يؤمن محمد أن المهور الصاروخية لا يقوى على توفيرها شاب مثله يبدأ من تحت الصفر، بل هي حكر على أبناء الطبقة المخملية، ومن يولدون وبأفواههم ملاعق من ذهب كما يقال، أما العمل بالحديث النبوي الشريف «التمس ولو خاتماً من حديد» فلم يعد يخص زماننا، يقول ذلك والحسرة تكاد تأكل قلبه!