قدم المخرج الإيراني أصغر فرهادي المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الدولي في دورته السادسة والستين فيلمه الجديد «الماضي» المصور في ضاحية باريس وهو دراما عائلية بأجواء خانقة يحلل فيها مشهداً بعد آخر، الآثار المدمرة للأسرار والأحقاد. ولا يحيد المخرج الذي فاز فيلمه الأخير «انفصال بجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي وجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين وسيزار أفضل فيلم أجنبي، في عمله الجديد عن موضوع العلاقات الأسرية وتعقيدات العلاقة بين الزوجين أو الشريكين». وهو يتطرق مرة أخرى إلى طبيعة العلاقات والمشاعر والحقائق التي تقف خلفها ومدى خضوعها لوجهات النظر ومعرفة أو عدم معرفة الأسرار الصغيرة التي تكتنفها. ويضع فرهادي في فيلمه الذي ينافس على السعفة الذهبية أسئلة الحاضر أمام اختبار الماضي الذي لا مفر منه مخضعاً كل شيء للشك ولضراوة الأسئلة التي لا يجيب عنها بل تبقى معلقة كما نهاية الفيلم وكما العواطف والعلاقات التي تحضر حتى وإن انتمت إلى الماضي. وقد اختار المخرج الإيراني الذي لا يتلكم الفرنسية كلاً من طاهر رحيمي وبيرينيس بيجو وعلي مصطفى لأداء الأدوار الرئيسة في فيلمه. تبدو شخصيات الفيلم جميعها غارقة في تناقضاتها. ولا تتسم مقاربة المخرج لها بالحسم بل إن الشخصيات تبقى أسيرة شكها ومحاولتها غير المجدية تماماً للفهم. وهي كذلك شخصيات معقدة لا يمكن إصدار أحكام بشأنها. فبعد أربع سنوات من الغياب يعود أحمد (علي مصطفى) من طهران إلى باريس لإنهاء إجراءات الطلاق بناء على رغبة زوجته ماري (بيرنيس بيجو). لكن الماضي الذي بينهما يحضر معه ليتوازى مع العلاقة المعقدة التي تقيمها زوجته السابقة برجل آخر. وعلى غرار ما فعل في فيلم «انفصال» يسلط فرهادي عدسته على النواحي المظلمة في النفس البشرية ويجوب بحواراته أنحاء العواطف ليبقي كل شيء معلقاً رهن السؤال أو الاحتمال متمسكاً بحنكة سينمائية ولغة اكتسبها من سنوات عمله المسرحي قبل السينما. ومن هنا يأتي اهتمامه الكبير بالحوارات ومعانيها واقتصار التصوير على أمكنة محدودة جلها صور في منزل الأسرة. وكشف أصغر فرهادي في المؤتمر الصحافي الذي أعقب عرض الفيلم «من البداية أردت أن أصور هذا الفيلم في الخارج لأنها قصة إيراني ترك بلده ليعيش حياته في مكان بعيد ولكن السؤال الذي يطرح هو لماذا اخترت باريس كمدينة وأسباب ذلك كثيرة...». واعتبر فرهادي في رده على سؤال لوكالة فرانس برس حول سبب اختياره مجدداً لموضوع العلاقات الأسرية والانفصال، «لا توجد تجربة أكثر عالمية من مسألة العائلة بالنسبة للبشر... لو أمضيت بقية حياتي في عمل أفلام عن الموضوع لما انتهيت». أما عن الوجوه المتعددة التي تعكس الحقيقة نفسها أو تطل على الواقع نفسه، فاعتبر فرهادي أن «الحقيقة ليست أمراً يمكن الإحاطة به في المكان أو الزمان، الحقيقة متمازجة وواقع العلاقات الإنسانية لا يمكن رصده إلا من زاوية نظر الأشخاص. في العلاقات الأسرية هناك طبقات ومعان كثيرة للأشياء وهذا لا يمكن أن نقوم باقتراح وحيد له في السينما كما في الأدب». وردت برينيس بيجو على كيفية تعاطيها مع الأبعاد العاطفية والنفسية المتعددة لشخصية الأم المنهكة والعصبية التي تؤديها بالقول: «الحب يتغير مع الوقت وكذلك الشخصيات... الحقائق أيضاً تتغير بحسب الأوقات ووفق ما يتم الكشف عنه من أشياء تكون طي الكتمان». مثل حكم مبرم يطبق «الماضي» على شخصيات فرهادي التي تراوح مكانها كأنما هي أسيرة هذا الماضي فلا تتقدم تالياً في حياتها الراهنة... تتردد تشك ولا تعرف. ويؤكد فرهادي «الماضي لا يمكن أن نفر منه.. الماضي يلح علينا. الماضي غير موجود لكن ذكرياتنا التي عشناها عنه وهذا يرتبط بالحنين لذلك يمكن لنا دائماً أن نعيد طرح السؤال عن الماضي الذي يبقى غامضاً». وقد تدرب الممثلون على الأداء مدة ستة أشهر فيما استغرق التصوير شهرين، لكن عملية التدريب لم تشمل المشاهد الأكثر دقة ليظل الأداء أكثر طبيعية وعفوية. ووصف الممثلون عمل فرهادي بالدقيق جداً. وأوضح طاهر رحيمي الذي يؤدي في الفيلم دور «سمير» ذو الأصول العربية أن «السيناريو مفصل بالميليمتر وهو أقرب إلى نوتة موسيقية. مع ذلك لدينا أحساس أننا أحرار». أما بيرينيس بيجو فألمحت إلى أن وقت التصوير كان أطول من المعهود «لكن في ذلك ترف كبير وهذا يتيح مساحة للاستماع والتبادل. فرهادي مثل مصمم رقص، يرسم الطريق، ويضعنا في الأمكنة المناسبة لأداء أدوارنا». وتبقى مقاربة فرهادي للسينما مقاربة وثائقية تدفعه لتفضيل أصوات المكان وأحياناً ضجيجه على صوت الموسيقى التصويرية كما هي الحال في ذلك البيت القائم في الضاحية الباريسية قرب محطة للقطار. ويوضح «البيت هناك يرمز لمرور الوقت، والسكة تدل على ذلك في الأفلام وقد استخدمت هذا الرمز في أفلام سابقة لي». ويتناول فيلم «الماضي» وهو من إنتاج الفرنسي الكسندر مالي، على غرار «انفصال» بطريقة تكاد تكون فلسفية موضوعاً راهناً في المجتمعات الحديثة حيث يواجه المرء باستمرار تحديات مع الآخر في مجتمع فرنسي متعدد وحيث الأطفال يدفعون دائماً ثمن عدم تفاهم الكبار. وعن مشاريعه المقبلة قال فرهادي «أنتظر أن تأتي الحكايات إلي وأن تقول لي بنفسها أين ستحدث».