كتب ـ أمين صالح:الأم «جيسيكا شاستين» في البيت، ثم الأب «براد بيت» في موقع عمله، يتلقيان بذهول وصدمة شديدة، نبأ موت ابنهما الأوسط «انتحاراً على الأرجح.. فالفيلم لا يقدم معلومات عن السبب أو تفسيراً عما حدث أو حتى تلميحات بشأن وفاته» وهو في التاسعة عشر من عمره. في لقطات منفصلة، وجيزة، متداخلة برشاقة، يرصد تيرنس ماليك في فيلمه «شجرة الحياة» في تعاطف موجع آلام وأحزان الأب والأم نتيجة هذا الفقد المريع الذي زلزل كيانهما وهز حتى إيمانهما.ثم ننتقل إلى الأخ الأكبر جاك «شون بن» وهو يشعر بالاختناق في بيئته الحالية، في موقع عمله كمهندس معماري ناجح، وفي بيته الزجاجي مع زوجته أو صديقته. من الواضح أنه يمر بأزمة عاطفية، انهيار عصبي لسبب ما، يعتريه حزن وأسى ووهن وحنين إلى الماضي، إلى سنوات تكونه ونشوئــه، جـــاك يعي تماماً مأزقه الوجودي، انشطاره بين ذكريات طفولته بكل ما فيها من تعارضات، وإدراكه بأنه لا يستطيع أن يعود إلى ذلك الزمن إلا عبر الذاكرة.تلك الحادثة المؤلمة، حالة الفقد المأساوية، لأخ كان يحبه كثيراً، لا تزال تسبب لجاك وجعاً شديداً كأن جرحاً عميقاً محفوراً بداخله ولا يريد أن يندمل.بعد هذه المشاهد، يأخذ الفيلم جمهوره، بشكل مفاجئ وغير متوقع، لكن بسلاسة وعلى نحو أخاذ، إلى بدايات الخليقة وتكون الأرض، عبر مؤثرات بصرية آسرة، وبلا تعليق أو سرد، باستثناء الموسيقى والمؤثرات الصوتية. هنا نرى خلال 16 دقيقة تقريباً، سلسلة من الصور الرائعة.. غيوم سديمية تتمدد في عمق الفضاء، براكيــن تتفجـــر، خلايـــا تتعـــدد وتتلاحم، كائنات مائية، صحارى، جبال، حقول، ديناصورات تظهر ثم تنقرض، تمدد الحياة على الأرض واستمراريتها. من المطلق واللامتناهي نعود إلى الأرض، إلى جاك الذي يتجول عبر مواقع مختلفة ومتداخلة، ويستحضر ـ وهذا ما نراه من خلال الفلاش باك الذي يستمر حتى نهاية الفيلم ـ ولادته في بيت دافئ بين أحضان أم حنونة وأب عطوف لكن صارم، في إحدى بلدات تكساس في خمسينات القرن العشرين. إننا نتابع نشوء الطفل منذ الخطوات الأولى وما بعدها، ثم ولادة شقيقيه، الحياة اليومية في حي سكني في مدينة واكو بتكساس، الدراسة، اللعب مع الرفاق. أيضاً نرصد الاندفاعات السريعة نحو الطيش والتهور، نحو التجارب والاكتشافات، الرعشات الأولى التي تبعثها المغازلات الخجولة داخل العروق الطرية، المجابهات الأولى مع الواقع، ومع البواعث النفسية والجنسية. صدمة الوعي بحضور الموت للمرة الأولى وإدراك عجز الكبار عن حماية الصغار من النهاية المحتومة، الاستجابات المتباينة وردود الأفعال الانعكاسية تجاه ما يحدث وما يرونه ويشعرون به. حركة الأيدي والأصابع، في ملامسات مستمرة، متواصلة، لأطراف وأعضاء بعضهم البعض، والتي تعبر عن حالة حميمية عميقــة، وعــن علاقــة عاطفيـــة قوامها الحب والفهم والتطمين والثقة، من السمات التي يوجه لها الفيلم عناية قصوى، ويؤكدها في العديد من المشاهد في لقطات قريبة.الكاميــرا تتابـــع بحـــب حركـــة الأيدي وهي تتلامس في رقة ووداعـة، مؤكـدة قـوة أو طاقــة اللمس كتعبير عن عمق الروابط القائمة على الحب والحماية والحميمية، الباعثة على الدفء والأمان، المعبرة عن الاتصال بين الأفراد في أقوى تجلياته ومستوياته، ملامسات ناعمة، حنونة، مطمئنة، مؤكدة للعاطفة الأسمى.. ملامسات تتبادلها الأم والأب مع أبنائهما، الزوج والزوجة أو الأم والأب، الأشقــاء فــي مـــا بينهم. جاك يكبر ليصبح مراهقاً «هنتر ماكراكن» ممزق الشخصية، منكسر النفس، مشوش الذهن، مثقلاً بالضيق والانزعاج والأسى بسبب سلوك وأفكار والده الذي يريد أن يفرض على أولاده انضباطاً قاسياً وحازمــاً تمليــه تربيتــه وتجاربـــه العملية، وقبل كل شيء، إخفاقه في أن يكون موسيقياً أو مخترعاً، وإخفاقه في الحصول على عمل براتب أعلى من الراتب الحالي، إن احباطاته وخيبات أمله، نتيجة هذه الإخفاقات، تنعكس سلباً على تصرفاته وتعامله مع أبنائه.هو يريد إجبارهم جميعاً على الإصغاء إلى قصصه ومواعظه وحكاياته الرمزية، وهم يصغون تجنباً لما يمكن أن يمارسه من عنف جسماني أو لفظي أو عاطفي، لكن مع مرور الوقت والتكرار لا تعود هذه الحكايات تثير اهتمامهم، مع أنها ـ بالنسبة له ـ ضرورية لفهم الحياة، وعندما يلاحظ لا مبالاتهم وتجاهلهم ينفعل ويثور لأن أحداً لا يريد أن يصغي إليه، أن يفهمه. إحساســـه الهــش بذاتــه يجعلــه باستمرار يلتمس الحب والاحترام من عائلته طوال الوقت، لذلك يؤذيه ويجرحه إحساسه أنه لم يعد موضع حب واحترام، أنه لم يعد المركز الذي يستقطب الاهتمام والتقدير، لكنه إزاء موقف كهذا، لا يحاول أن يستوعب حاجيات الأطراف الأخرى، ويفهم التحولات الطارئة عليهم فيما يكبرون مرحلة انتقالهم من البراءة إلى التجربة، من تلقي المعلومات والمبادئ إلى اكتشاف الواقع المحيط بأنفسهم، بل يلجأ إلى العنف والعقاب. الأب يحب أولاده ويريد لهم أن يعيشوا في وضع أفضل وحياة سعيدة بلا منغصات، يتمنى أن يصبحوا رجالاً ناجحين في أعمالهم وحياتهم الأسرية، لكنه يذهب في الاتجاه الخاطئ.
«شجرة الحياة».. نتائج تعكس الفرضيات
04 يونيو 2013