^  في الجزء الأول من هذه المقاربة أشرنا إلى الدور المدمر لبؤر التوتير الإعلامية، وخاصة منها وسائل التواصل الاجتماعي التي تحولت تدريجياً إلى أداة منفلتة وخارجة عن نطاق السيطرة، واستكمالاً لمتابعة هذه الإشكالية، يمكننا أن نضيف الملاحظات التالية: أولاً: لقد أصبح الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي (يسميهم الكاتب البحريني اللامع خالد المطوع بمجاهدي الكيبورد) يشكلون اليوم جيشاً عرمرماً (بالمعنى الإيجابي والسلبي على حد سواء)، وهو الجيش الذي يتولى اليوم عملية التأثير على نحو مباشر وفوري على حياة المجتمع، ونتذكر هنا بأن حركات الاعتراض والتظاهر والاحتجاج والانتفاض في العالم العربي، وحتى في العوالم الأخرى قد استفادت من هذه الوسيلة للانفلات من تأثير وسائل الإعلام التقليدية ومن وسائل الرقابة المعتادة، وقد كان لها تأثير كبير في إرهاق السلطات وتجييش الجمهور، خاصة جمهور الشباب المحبط، ضد الأنظمة الحاكمة، وإن كان هذا التأثير وقتياً وغير حاسم، لأن الذين جنوا الثمرة وانقضوا عليها هي الأحزاب والجماعات التقليدية المهيكلة والمنظمة والممولة جيداً والمنتشرة بين الناس، فإن هذه الجيوش الجرارة غير المؤهلة أو الموجهة معرفياً، وغير المهيأة فكرياً وقيمياً قد باتت تخبط خبطاً عشوائياً في ساحة الوغاء على غير هدى، فتحدث تأثيراً مدمراً وفورياً على جميع المستويات، إلى درجة تقلص معها تأثير أجهزة الإعلام التقليدية والفضائيات إلى حد كبير، وخاصة الأجهزة الرسمية منها. هذا النوع من الحرية، رغم ما لها من جوانب إيجابية ملموسة على التواصل الاجتماعي وسرعة انتقال المعلومة وحريتها، فإنها (ولأنها غير مستأنسة وفق متطلبات المسؤولية القيمية والوطنية والاجتماعية وحتى القانونية) أصبحت بالفعل تؤثر سلباً على وحدة المجتمع وعلى أمنه واستقراره، خاصة عندما دخل عليها من لا يدرك المخاطر، أو من يدركها ولكنه يريد من خلالها زعزعة المجتمع ونسف ثوابته. ثانياً: إن وسائل التواصل الاجتماعي لا تتطلب اليوم ترخيصاً ولا تحتاج إلا جهاز هاتف وخط إنترنت، يكون بين أيدي الأطفال والمراهقين وحتى قطاع الطرق والمتسولين، بما يرفع من حجم الخطر، الذي قد يكون في بعض الأحيان أخطر من الأسلحة النارية فيما تحدثه من دمار وتخريب، مع فرق واحد وهو أن الأسلحة النارية غير مرخصة، في حين أن أجهزة التواصل الاجتماعي مرخصة ومتاحة على نطاق واسع وليس عليها أي نوع من القيود.. ثالثاً: الوجهة الأخرى من القضية له علاقة بحالة مفارقة لهذه الصورة المجلوبة مع حالة الربيع العربي، تتمثل في قدرة الإعلام الفضائي على استهلاك طاقات واهتمامات شبابنا في سياقات أخرى مختلفة عن السياق السياسي الاجتماعي، ومثال ذلك ما أمكنني مطالعته في أحد المواقع الإلكترونية طالعت من إحصائيات، حول تأثير الإعلام بأنواعه المختلفة على الاتجاهات القيمية للشباب، مجملها أن أكثر من سبعين مليون اتصال من الشباب العربي قد ورد إلى قناة عربية للتصويت حول برنامج ترفيهي، وبذلك يكون أكثر من سبعين مليون صوت عربي قد صوت، بما يعني أن جيوشاً أخرى من الشباب تنشغل اليوم بقضايا أخرى لا علاقة لها بالصراعات السياسية والاجتماعية، بما يؤكد ما يمارسه الإعلام الفضائي خاصة على الشباب من تأثير متزايد يتجاوز تأثير المدرسة والجامعة والكتاب والجريدة والبيت والجمعية والحزب.. إنه التأثير الحاسم في حياة الأجيال الجديدة بالإضافة إلى تأثير الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماع. إنه واقع جديد، فيه إيجابيات ولكن فيه سلبيات كثيرة بدون شك أيضاً ومخاطر جمة لا يبدو أن هنالك أي معالجات جادة لها.