انتزع الحياة من بين أنفاس الصغار وحول جنانهم إلى مزيد من الأسى والحزن بعد حجم الفقد الذي اعترى حياتهم دون تفريق بين بريء أو مذنب، صالح أو طالح، عجوز أو طفل، ورغم تعدد مصطلحاته التي سمي بها، إلا أنها جميعاً تصب في نفس المعنى والمضمون، فالمعاجم اللغوية عبرت عن «التطرف» بأنه الخروج عن المألوف ومجاوزة الحد، والابتعاد عن الوسطية.ويضاهيه في المعنى والمضمون «الغلو»، الذي ورد في القرآن الكريم وعلى لسان النبي صلى الله عليه وسلم، ليعبر عن المفهوم السائد في الوقت الحالي، والذي هو تجاوز حد الاعتدال سواء في العقيدة أو الفكر أو السلوك، وذكر بعض العلماء أن التطرف في الحكم على الدماء، ربما يحكم بكفر بعض الناس من أهل القبلة، فإذا غالى في تطرفه، فربما يستبيح قتله، ويرى في هذا أجراً من الله تعالى وهذا لاشك أنه أشد وأخطر، لأنه يقتل باسم الدين.ويأتي الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية السمحة وسوء الفهم من أهم أسباب التطرف، فجل من ابتلوا بذلك من صغار السن، الذين لم يحصلوا على العلم الشرعي الذي يحصنهم، فينقادون خلف حماسهم، أو ما تمليه عليه عقولهم، أو ما يفتيهم به بعض من يظنون أنه من أهل العلم، وهو ليس منهم، فيترخصون في أشياء منع منها الشرع، خاصة إن كانت متعلقة بعظيم الأمور، مثل الدين والدماء والأعراض.وقد تجد أحدهم يتكلم في تكفير المعين لأسباب يراها هو مكفرة، ونسي أو جهل أن هناك عذراً بالجهل، وعذراً بالشبهة، وعذراً بالتأويل، وأنه لابد من إقامة الحجة على هذا الشخص المعين، والذي يقيم الحجة لابد أن يكون عنده من الأدلة التي تقابل كل شبهة عند المخالف بما يقضي على هذه الشبه، وليس مجرد إبلاغ الحجة وحده كافياً في كل الأحيان، فهناك فرق بين إقامة الحجة وإبلاغها، ولو درى هذا خطورة ما يفعله لكف لسانه عن الخوض في ذلك، فكما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما).وكذلك لابد أن يكون متبحراً في اللغة، ودلالات الألفاظ، وذلك بخلاف معرفة القواعد الفقهية والأصولية، وغير ذلك من أدوات العلم الشرعي. ولكن الكثير من هؤلاء الشباب المندفعين وراء حماسهم لم يحققوا شيئاً من ذلك، ومع ذلك يتكلمون في أمور، ربما لو عرضت على أبي بكر الصديق، أو عمر بن الخطاب رضي الله عنهما لجمعا لها أهل بدر.واتباع المتشابه من أهم أسباب التطرف الفكري، ذلك أن هناك بعض النصوص تحتاج إلى الراسخين من العلماء ليفهموها فهماً صحيحاً، فإذا ما نظر فيها من ليس من أهل العلم، فقد يقع في المحظور، ويخرج عن حد التوسط الذي هو من أهم صفات هذه الأمة، قال تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌ من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب).كما إن اليأس من أكبر علامات الهزيمة النفسية، والشخص اليائس لا يفعل شيئاً، فهو دائماً في انتظار الشر وتوقعه، لا يرى شيئاً يبعث على التفاؤل، وإن وجد شيئاً يدعو إلى التفاؤل، حمله أيضاً على محمل سيء، وذلك ما يحمل الكثير من الشباب إلى التطرف في القول والفعل والتفكير.ومن أقبح الصفات التي يمكن أن يتصف بها «الظلم»، خاصة إذا كان ذا منصب، أو سلطان، لأن هذا يستجلب غضب الناس عليه، فيحملهم ذلك على التطرف، وعدم الإنصاف، كما حذر منه سبحانه في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا).ويتصدر العلماء المسؤولية في بيان الحق، فإذا ما تقاعسوا عن القيام بدورهم، أو داهنوا الظالمين، وكفوا عن بيان أحكام الشريعة، كان ذلك دافعاً لأن يظهر أنصاف المتعلمين، ليفتوا الناس في الحلال والحرام، وفي قضايا الساعة، فيكون التطرف.كما إن التطرف لا يقتصر على صورة معينة أو شكل معين وإنما يتعدد ليشمل القول، على نحو كل لفظ لا يحل إطلاقه، مثل السب والقذف والغيبة والنميمة وإطلاق الشائعات، إضافة إلى التطرف في الفعل والسلوك، ويكون بفعل كل ما يخالف الشرع، لكنه يختلف باختلاف درجة تحريمه، فهناك كبائر، كالقتل والزنا والسرقة، وهناك صغائر، وكلما كان الفعل كبيراً بأن ورد فيه حد، أو وعيد، كان أمره أعظم.والصنف الأخير يتمثل في مجاوزة الحد والاعتدال في المعتقد، وذلك بأن يتعدى كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصحابة الكرام وسلف الأمة، مثل الشرك والإلحاد، وتقديس الأشخاص، وإعطائهم صفات لا تليق إلا بالله، كعلم الغيب والعصمة. ويأتي الاستعجال في الحكم على الأمور وخاصة عظائمها، وهو غالباً ما يؤدي إلى نتائج خاطئة، ومرتكبه لا ينظر إلى عواقب الأمور عادة، ويعد ذلك من علامات التطرف، وقد ورد في الحديث (التأني من الله والعجلة من الشيطان)، إضافة إلى ذلك يأتي الانفعال وسرعة الغضب لأتفه الأمور، وعدم النظر للأشياء بموضوعية، وعدم الثقة في الآخرين والشك في كل شيء، رغم أن العاقل من يتعامل مع الناس على ما ظهر منهم، ولا يسيء الظن.ويعالج التطرف بمعرفة أسبابه وإزالتها، من خلال نشر العلم الشرعي الصحيح الداعي للوسطية، والعمل على توضيح الأمور والشفافية في التعامل، لتجنيب الناس متاهة التقديرات والتصورات الخاطئة، إضافة إلى الكلام على ما قد يشكل من النصوص، وبيان رأي أهل العلم فيها، لدفع كل شبهة.كما إن بث الأمل في نفوس الشباب، والتأكيد على أن النصر والغلبة ستكون للمسلمين، وإقامة العدل والمساواة بين الناس، ورفع الظلم عنهم، وتفعيل دور أهل العلم في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يغفل دور المجتمع في الحرص على التنشئة الصالحة، التي تعتمد بشكل أساس على تعاليم الإسلام السمحة، وتدعو إلى العدل والإحسان والعزة والكرامة.ومن الجدير بالذكر أن التعامل مع النصوص الشرعية يحتاج إلى إعمال العقل بطريقة صحيحة، كما كان يفعل علماء الأمة، وأئمة الإسلام، وهذا ما يسمى بالاجتهاد، الذي لا يسوغ لكل أحد، إنما للعلماء الذين حصلوا أدواته، إلا أن ما يجذب الكثير من الناس الذين ليس لهم نصيب من العلم لمثل هؤلاء المدعين، أن كثيراً منهم قد أوتي جدلاً، فيجيد فن الكلام والحوار، ويجيد فن التلبيس والتدليس والمراوغة في الحوار، فينخدع بكلامه كثير من الناس، فيلتفون حوله، فيظن الجاهل أنه ما اجتمع حوله هذا الجمع من الناس إلا لفضل علمه.
«التطرف» جهل بالشريعة يحمل لواءه مهزومون فكرياً ونفسياً
23 أغسطس 2013