قد يكون من الصعب الآن على العديد من القوى السياسية إنكار الديمقراطية أو التحجج بكونها لا تصلح كنظام حكم إلا أنه ينبغي أن يوضع في الاعتبار أهمية أقلمة هذا المفهوم بالشكل الذي يلائم بيئتنا وأولوياتنا الوطنية، مع الوضع في الاعتبار أن الديموقراطية التي نعنيها هي في الجوهر تلك التي جربتها البشرية وطمحت لها في دول كثيرة من دول العالم،وأنها تنبنى على خبرات مشتركة بين مختلف الشعوب وليست شيئاً يتم تعريفه لأول مرة ولا هي مفهوم يؤخذ بشكله الظاهري دون الولوج إلى فلسفة هذا النوع من أنظمة الحكم ولا هو أيضاً نظام حكم يؤخذ كإطار خارجي لتجميل وجه نظام معين للتغطية على ممارسات تسلطية استبدادية بعيدة كل البعد عن الديموقراطية.كما لابد أيضاً أن يبدأ أي مفهوم وطني للديموقراطية بالاعتراف بأن البحرين هي أيضاً كيان ثقافي متميز ومنتمٍ إلى عدد من الدوائر الحضارية المتداخلة (الإسلامية والعربية والآسيوية) كما إن لها ظروفها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الخاصة،وتقاليدها السياسية الممتدة والمتجذرة وخاصة فيما يتعلق بالتأكيد على قيم العدالة وأنها قادرة على إثراء مفهوم الديموقراطية والتمتع بتجربة أصيلة لا تقوم على تقليد أو نسخ لغيرها من التجارب وأن التوق لتجربة ديموقراطية أصيلة لا يمكن أن يعني الإجحاف بأي شكل من الأشكال بالقيم المشتركة للإنسانية أوبالمبادىء، والمعايير الأساسية للديموقراطية، وإنما يعني تجسيد هذه القيم بصورة تستجيب للحاجات الأصيلة والمشروعة لكل القوى الاجتماعية الكبرى، ولحاجات البلاد ككل، وللضرورات التي يمليها التكوين الثقافي البحريني، فالديمقراطية ليست مجرد نظام سياسي أو كيان قانوني شكلي فحسب، بل أن لها ماهية و فحوى يتلمسها الناس بالتجربة وبالممارسة أيضاً، وأن كل استخدام لقاعدة قانونية شكلية ديموقراطية لتحقيق نتائج معاكسة للهدف منها أو للغرض الذي وضعت لتحقيقه هي غدر بالديموقراطية وإجحاف بها. ومن هذا المنطلق فإنه يجب أن نضع نصب أعيننا الفحوى الجوهرية للديموقراطية في كل العصور، وهي أنها النظام الذي يقوم على سلطة الشعب وسيادة الأمة.وبصورة عامة فإن الممارسة الديموقراطية هي الجانب الأكثر أهمية، وفق مبادىء عامة وأساسية لا يجوز خرقها ولا يقبل أن يتم تنظيمها بصورة تؤدي إلى مصادرتها. مثل تنظيم محدد للعلاقة بين سلطات الدولة والمجتمع وبناء نظام نيابي يقوم على الانتخابات العامة الدورية والنزيهة، ونظام حكم يقوم على مبدأ حكم الأغلبية مع الاحترام التام لحقوق الأقلية، ووضع ضمانات تحول دون تركيز السلطة أو احتكارها أو تأبيدها، مع وضع الأسس السليمة التي تضمن ممارسة الحكم بصورة فعالة وفي حدود حكم القانون.وتحتاج الديموقراطية إلى شروط تمهيدية أساسية،وهي شروط تسمح بتطور ديموقراطي سليم وصحي دون أن تكون بذاتها جزءاً من تعريف الديموقراطية. وتشمل هذه الشروط العناصر الأساسية التالية:أ) استقلال الإرادة الوطنية: إذ يصعب أن تعيش الديموقراطية في ظل فقدان الاستقلال السياسي والحد الأدنى من الاستقلال الاقتصادي الوطني.ب) التوافق على القيم الجوهرية للمجتمع وأركان ثقافته الوطنية مع الوعي بالإضافات العظيمة التي يمكن أن تؤدي إليها الممارسة الثقافية الخلاقة والأصيلة التي تترجم الأهداف السامية والأساسية للمجتمع والدين الإسلامي. حيث إن هناك ضرورة على التوافق على الدور الكبير الذي يلعبه الإسلام في تكويننا الثقافي والأخلاقي والقومي.فتعزيز هذا الدور مطلوب وضروري. ويجب البناء على القيم الأخلاقية الرفيعة التي أكدها الإسلام،وتأصلت في نسيجنا الحضاري والمجتمعي.إلا أن جانباً من هذا التوافق ينبغي أن يقوم على استبعاد بناء دولة دينية بمعنى منح أي جماعة- وخاصة رجال الدين- امتيازاً سياسياً ما. وبالمقابل فإن بناء الدولة ونظامها وسياساتها يجب ألا يصطدم أويتناقض مع القيم الأساسية للدين الإسلامي.ت) التوافق على معاني الاعتراف بالآخر والتسامح السياسي والفكري وحقوق المواطنة المتساوية وإقامة الممارسة السياسية على قاعدة المشاركة في الوطن والمساواة في حقوق المواطنة واستبعاد كل صور التمييز على أساس الدين أو الجنس أو الأصل العرقي أو جهة الميلاد والإقامة أو أي اعتبار غير شخصي آخر.ويجب بصورة خاصة أن تتم مكافحة جميع صور الطائفية وتأكيد الوحدة الوطنية وإبعاد المؤسسات الدينية عن المجال السياسي، واعتبارها مرافق عامة مفتوحة ومتاحة للجميع يرأسها أشخاص يتمتعون بالاحترام العام على ألا يسمح لهم بمزاولة الوظائف أو الأدوار السياسية أثناء شغل وظائفهم الدينية. وفي الحد الأدنى يجب إقامة العلاقات الدينية على أساس التسامح والاحترام المتبادل وتحصين المعتقدات الدينية من الهزل والسخرية أو الإهانة، دون إجحاف بحق المناقشة العاقلة والمفيدة لكل الأفكار والنصوص أو الممارسات في سياقات تضمن حرية البحث والإبداع.ث) تحقيق الحد الأدنى من النهوض الاقتصادي والمجتمعي. وذلك يعتبر شرطاً ضرورياً لمواصلة وتنمية تجربة ديموقراطية ذات معنى وقابلة للحياة والازدهار. وفي هذا السياق، فإن أي نظام ديموقراطي يفقد جانباً كبيراً من ضرورته إن لم يُمكن المجتمع من الانطلاق النهوضي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وإحداث شبه قطيعة مع الفقر والتخلف. إن الديمقراطية تعني سيادة وسلطة الأمة والشعب، ويجب أن تحافظ الممارسة السياسية الفعلية على هذا المعنى. فإضافة إلى الوسائل النيابية يجب أن تشجع القوانين والممارسات الفعلية على مشاركة المواطنين، كأفراد وهيئات أو جمعيات عمومية للمؤسسات العامة، في اتخاذ القرارات وصنع السياسات. فمستويات معينة من الديموقراطية المباشرة صارت ممكنة بل وضرورية لترجمة مبدأ سيادة الشعب وسلطته من خلال كل الوسائل الضرورية للتعرف على آرائه في السياسات المختلفة. وذلك من خلال تأكيد الصلة المتواصلة والحميمية بين النواب وناخبيهم وفتح الباب أمام الناخبين لمحاسبة نوابهم في أي وقت، والتزام النواب باستشارة ناخبيهم حول مختلف القضايا التشريعية والرقابية.خالد فياض خبير سياسي – معهد البحرين للتنمية السياسيةنحو مفهوم وطني للديمقراطية
مقال الثقافة السياسية
25 أغسطس 2013